عبد الرحمن منيف... رواية الواقع المأزوم

  • 2/1/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

وكانت أول رواية لمنيف قد صدرت عام 1973 وهي بعنوان الأشجار واغتيال مرزوق التي كانت من أضخم الروايات التي كتبها منيف وهي بحسب النقاد تتكون من قسمين جاءا كلاهما على لسان منصور عبد السلام المترجم وعالم الآثار المسافر عبر القطار إلى خارج وطنه (غير محدد كعادة روايات منيف) وكان القسم الأول مكوناً من سيرة تسرد أحوال جليسه إلياس نخلة تاجر الملابس القديمة، والمهرب، الذي لا يجد توافقاً في قريته بعد أن يخسر أشجاره التي ورثها في القمار، ثم يخسر زوجته، بينما تناول القسم الثاني سيرة منصور الذي يعيش حالة تصادم مع واقعه داخل الوطن، حيث يفصل من وظيفته الجامعية، ويتم رفضه حين يتقدم لخطبة امرأة يحبها، فيعيش تجربة الاعتقال ثم اغتيال رفيقه مرزوق. لكون منيف كان معنياً بإبراز الواقع العربي، وتصوير هذا الواقع في أعماله الروائية، فقد استل شخصياته من رحم الواقع، فهناك المثقف الملتزم والإنسان البسيط وهناك التاجر والمقامر وغيرها من الشخصيات المأزومة التي تجد ما يقابلها في أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وامتداد تأثيراتها السياسية والاجتماعية في الوطن العربي وصولاً إلى سبعينات وثمانيات القرن الفائت، في الفترة التي تأثرت فيها الأفكار السياسية التقدمية بكثير من النظريات والتيارات التي ارتأت أن تسهم في عملية التغيير الجذري في الواقع العربي. من هنا، كانت الأشجار واغتيال مرزوق بمثابة الرواية التي شكلت ملمحاً متقدماً في مجمل ما كتبه منيف، فيها شخصيتان من الجيل نفسه، أي جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، تمثلت الأولى في منصور المثقف المأزوم، أما الثانية فمثلها إلياس وهو رجل عادي لا تميزه أي شهرة باستثناء أنه مقامر، كما تجمع الشخصيتين حالة من الصراع المتشابه مع الآخرين، ونفس المصير التصادمي، فها هو إلياس نخلة يصبح ملاحقاً، فيما ينتحر منصور عبد السلام في صورة مأساوية تقابل الكثير من الحالات المشابهة في الراهن العربي المعاصر. ما ذكر سابقاً هو نموذج يتكرر في أعمال منيف، كما هو على سبيل المثال في رواية سباق المسافات الطويلة 1979 التي بنت موضوعها كذلك من محاكاة الواقع العربي المتردي، هنا، الفقر هو سيد الموقف الذي يعالجه منيف في مقابل الفساد السياسي العربي، وهو لا يكتفي بمثل هذه الصورة النمطية بل يشبكها بأبعادها الدولية، ففي الرواية ثمة تأريخ للصراع الإمبريالي الذي عرفته المنطقة، وهو توظيف ذكي لجأ إليه منيف، باستدعاء نموذج الاستعمارين أو النفوذين البريطاني والأمريكي في المنطقة العربية، وسعي هاتين الدولتين الكبيرتين إلى السيطرة على ثروات العرب، وما رافق ذلك من خذلان استعماري وصفه منيف بالسلوك ألا أخلاقي للمحافظة على المصالح الغربية في المنطقة العربية. وصفت هذه الرواية، كما حللها النقاد، بالرواية الأنموذج لأدب مرحلة ما بعد الكولونيالية، وهي التي تلتقي مع الأفكار التي كتبها المفكر العربي إدوارد سعيد في الاستشراق الذي فضح صورة الغرب عن الشرق، كما ظهر في أدبياتهم المعروفة. في سيرة الروائي الراحل عبد الرحمن منيف واحدة من التجارب الفريدة التي جمعته بالروائي جبرا إبراهيم جبرا، اللذان كتبا معاً رواية عالم بلا خرائط 1982 باستدعاء مدينة متخيلة هي عمورية، وهي المدينة التي ظهرت كذلك في رواية منيف الآن.. هنا شرق المتوسط مرة أخرى، أما موضوع الرواية فينسج مع الخط الذي اتّبعه منيف متماهياً مع الظروف السياسية والاجتماعية العربية، مع إسقاطات تدين المد أو النفوذ الغربي في الوطن العربي. كتبت الكثير من الدراسات النقدية حول أعمال منيف، منها على سبيل المثال ما عنونه الناقد عصام بغدادي تحت اسم (الراحل عبد الرحمن منيف بين تألق الروائي وفشل المؤرخ) والتي يذكر فيها بعضاً من أعمال منيف مثل شرق المتوسط والأشجار واغتيال مرزوق وحين تركنا الجسر وقصة حب مجوسية حيث قال امتاز الراحل منيف بأنه صاحب نص صحراوي بعيد عن الغرائبية والاستشراق الذي أصاب أعمال آخرين كمحصلة لاشتغالات سابقة على فضاء النص الصحراوي، كما يصف مدن الملح بكونها تستعيد مطالع القرن العشرين لترسم صورة لتشكل المدن في الصحراء وكيفية ترسيخ قيم جديدة في مكان صحراوي وإخضاع هذا المكان لسطوة الشركات النفطية الأمريكية البريطانية إنها رواية تاريخية، لكنها في الوقت نفسه رواية المكان ومقترح لنص صحراوي آسر. في كتاب بعنوان مسألة النص الروائي في أعمال الراحل الروائي العربي عبد الرحمن منيف وصدر عن وزارة الثقافة السعودية وهو عبارة عن دراسة في الرؤى والأشكال والعتبات والأنماط والصور ألّفه الناقد الدكتور الرشيد بوشعير رأى مؤلفه أن منيف أسهم في تأصيل الرواية العربية من الناحية الجمالية سرداً ولغة وثقافة وبناء وأن الرواية عند منيف هي رواية إشكالية تُعنى بطرح الأسئلة المصيرية الكبرى التي تهم الإنسان وليست ترفاً أدبياً يستهدف المتعة الفنية المجردة. يجيء الكتاب على سلسلة من أعمال منيف بينها: حين تركنا الجسر والنهائيات وسباق المسافات الطويلة وعودة الزمان الباهي ولوعة الغياب وأرض السواد وغيرها. في رواية حين تركنا الجسر وهي الرواية التي تنتمي إلى المرحلة الأولى من أعمال منيف يستعير الكاتب تركيبة رواية العجوز والبحر للكاتب الأمريكي هيمنغواي، فهناك شخصية زكي النداوي التي تقف على النقيض من شخصية الصياد سانتياغو من حيث الثقة بالنفس، يبني منيف على هذا التناقض ليولد لدى القارئ إحساساً بخيبة الأمل عند من عاصروا الهزائم السياسية والنفسية في داخل الوطن العربي وخارجه. من حيث التقنية وأسلوب السرد الروائي عند منيف، برز واضحاً نزوع منيف لاعتماد ثلاث تقنيات أساسية هي: المكان، الزمان والشخصية، وهذه التقنيات كما يدرسها د. نبيه القاسم هي الوحدات الأساسية التي شكلت بنية الرواية المنيفية وأبرزت التميز في تناول عبد الرحمن منيف لها، كما يدرس القاسم الشكل والمضمون في أعمال منيف مبرزاً دور الشكل عنده في خدمة المضمون، بما في ذلك تحميل المكان مضموناً روحانياً متعدد الدلالات، يضيف إليه صفة ثالثة هي ذكر المكان دون تحديد ذكر ملامح مميزة له. قاربت روايات منيف في مجملها الواقع العربي وهو الذي برز واضحاً في اعتماده لشخصيات من طبيعة الزمن الذي يعيش فيه، فهي بالتالي ليست شخصيات أسطورية بل واقعية تماماً، ولقد كان بناء الشخصيات بناء على هذا الهدف الواضح عند منيف من الأساسيات التي لاقت ترحاباً كبيراً عند القارئ العربي في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، بما حملته من محاكاة وتشخيص وقدرة على استشفاف عمق الأزمة وصراع هذه الشخصيات في الأزمنة والأمكنة التي عاشت فيها. في سياق مختلف كتب منيف قصة حب مجوسية، من حيث رقة أسلوبها في اختيار الألفاظ والتعابير، والوصف الدقيق الذي يتحرى التفاصيل الصغيرة. وصفت الرواية بأنها سرد لحياة عاشق في سيرته العديد من النساء، لكنه حين يقع في حب امرأة متزوجة التقاها صدفة في فندق أثناء قضائه لإجازة، يدب لهيب الحب في قلبه عند رؤيتها للمرة الأولى، فظل هذا الحب مستمراً من طرف العاشق حتى بعد أن ترك الفندق وعاد إلى دراسته في المدينة، وهو الذي اضطره إلى قطع جميع علاقاته النسائية باحثاً عن محبوبته في خضم المدينة التعسة. تمر هذه الأيام الذكرى ال12 على وفاة الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف (29 مايو/أيار 1933 - 24 يناير/كانون الثاني 2004)، والذي شكلت إصداراته التي بدأت في سبعينات القرن الفائت علامة بارزة في المنجز الروائي العربي، كما اتسمت مجمل أعماله بخصوصية ميّزتها عن الروايات التي صدرت في حينه بنكهتها السياسية التي عالجت الكثير من القضايا العربية مثل مدن الملح التي صدرت بين الأعوام 1984 - 1989 وهي عبارة عن خماسية روائية اشتملت على (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، وبادية الظلمات).

مشاركة :