«بالونات» ساخرة تعمق الفجوة بين «شباب الثورة» والمجتمع المصري

  • 2/1/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

بين الدعابة والغباء شعرة، وبين المعارضة والنزق شعرتان، وبين عنفوان الشباب ورعونته ملايين تتحول من أقصى مناصرة الصغار ومبايعتهم والاعتراف بجميلهم إلى أقصى صب الغضب عليهم والمطالبة بتأديبهم وتهذيبهم ليكونوا عبرة لأبناء جيلهم. انقضت خمس سنوات منذ أشعل الشباب المصري فتيل المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية في كانون الثاني (يناير) 2011 ليتحولوا بين 18 يوماً ثورياً وضحاها من «شوية عيال متبلدة عديمي الشعور بالمسؤولية لا يفهمون في السياسة ولا يهتمون إلا بالتفاهات» إلى «أنقى شباب وطني حققوا لملايين المصريين حلماً كان أقرب إلى الخيال». لكن تغيرات عدة وتحولات كثيرة طرأت على العلاقة التي شهدت شهر عسل لم يدم طويلاً بين الشباب الثوري وبقية فئات المجتمع. وقبل أيام كادت العلاقة تصل إلى حد الطلاق. إطلاق مقطع مصور لشابين أحدهما يعمل بالتمثيل وهو أحمد مالك (20 سنة) والآخر شادي حسين (22 سنة) يراسل برنامج «أبلة فاهيتا» وكلاهما يصنف نفسه بـ «شباب الثورة» يصور عوازل ذكرية منفوخة كأنها بالونات، تقدم هدية لأفراد الشرطة في ميدان التحرير في مناسبة ذكرى الثورة، أدى إلى حالة عارمة من السخط والاستياء بين قطاعات عريضة من المصريين. أصوات قليلة من المؤيدين والمناصرين والداعمين للشابين تشير إما إلى حقهم في الدعابة والسخرية، أو حقهما في رد الإهانة إلى الشرطة التي سبق وطغت وظلمت – وربما ما زالت- بالإضافة إلى الحق في التعبير طالما الدولة تضيق على قنوات التعبير الأخرى. لكن الأصوات الأعلى كانت لمصريين ساخطين متذمرين من الشابين. اللافت أن السخط والتذمر لم يقتصرا فقط على مواطنين مؤيدين للنظام، وداعمين للشرطة، وغاضين الطرف عن تجاوزات أمنية هنا أو هناك، بل جاءا من آخرين لطالما وجهوا انتقادات وألقوا باللوم على الأجهزة الأمنية التي يسيء بعض أعضائها استخدام سلطاتهم أو يفرطون في استعراض قوتهم. «قوة الأوطان في شبابها وبنيانهم الأخلاقي. وفي حال كان المقطع المصور من قبل الشابين بغرض الفكاهة، فهي فكاهة مرفوضة وتعكس نقصاً في التربية، وإن كان بغرض التعبير عن الرأي فهي وسيلة سخيفة وتؤكد نقصاً في تربيتهما، وإن كانت رد فعل انتقامياً للشرطة، فهو رد فعل تافه وسفيه ومعناه أنهما تافهان. المقطع المصور صادم للمجتمع» يقول محمد وهدان (52 سنة) وهو أب لشابين في منتصف العشرينات. ويضيف: «أختلف مع ولداي كثيراً في المواقف السياسية. هما لهما الكثير من الاعتراضات على أسلوب الحكم، ويعانيان إحباطاً يقولان أنه ناجم عن تغير مسار ثورة يناير. لكنهما لا يعبران عن إحباطهما أو غضبهما بقلة أدب». «قلة الأدب» التي أزعجت محمد وهدان اختلف عليها كثيرون. بعضهم أسماها «سفالة»، آخرون سموها «ندالة»، وفريق ثالث رآها «كاشفة» لإخفاقات عقود في التربية والتنشئة والتدين والثقافة. وإذا كان المقطع «صادماً» لوهدان، فهو بالنسبة لآخرين كان متوقعاً ومنتظراً. «ماذا ننتظر من جيل هو نتاج انقراض المدرسة وفراغ البيت وفصام التدين وترهل الدولة وتحلل المجتمع؟» تتساءل السيدة آمال عبدالوهاب (معلمة متقاعدة) عن أبناء الثمانينات ومن جاء بعدهم. هي ترى أنه منذ قضت منظومة الدروس الخصوصية على منظومة التعليم العام «انهزمت المدرسة والتربية بالضربة القاضية أمام تحول المدرس إلى تاجر يتخذ من الفصل التعليمي سوقاً لصيد الزبائن وجذبهم إلى الحصص الخصوصية، والامتناع عن المشاركة في الجانب التربوي». الجانب التربوي المتبخر في هواء الدروس الخصوصية والذي تحول إلى نظام تعليمي مواز اسمه «مراكز الدروس الخصوصية» – حيث لا رقابة أو تقويم أو تنشئة - صاحبه خطاب ديني مصاب بالفصام. فقد سيطرت على المدارس المصرية منذ منتصف الثمانينات موجة من التدين المظهري والخطاب الفاصل فصلاً تاماً بين الشكل والمحتوى. وتقول المعلمة المخضرمة أن المدارس المصرية استقبلت آلاف المعلمين العائدين من سنوات أمضوها في العمل في دول ذات ثقافات مختلفة عن الثقافة المصرية. أولئك عادوا وقد تغيرت قائمة أولوياتهم، فاحتل الخطاب الديني المتشدد محل التنشئة السلوكية والأخلاقية فأخرجت أجيالاً من الملتزمين شكلياً والمنفلتين أخلاقياً. وإذا أضفنا إلى ذلك فتح الدولة الباب أمام جماعات الإسلام السياسي لتبني وتدير وتشرف على مجمعات مدارس هي أقرب ما يكون إلى مصانع تفريغ قنابل موقوتة». القنابل الموقوتة التي تشير إليها السيدة آمال عبدالوهاب ليست موقوتة فقط في ما يختص بإساءة فهم الدين، ولكنها – بحكم اعتمادها على جهود ذاتية في التربية- أخرجت أيضاً نماذج أخرى مشوهة افتقدت القدوة والنموذج والهدف والغاية. الغاية التي باتت غالبية الأسر تبحث عنها في العقود الثلاثة الماضية هي الدخل المادي، وهي غاية جمعت الأغنياء والفقراء في محاولات حثيثة لمضاعفة الدخل لتوفير المزيد من الرفاهية وجهود عاتية لتأمينه من أجل توفير الغذاء والدواء وأي نوعية من التعليم. نوعيات التعليم السائدة في مصر والوقفة على طرفي نقيض منزوعة الجوانب التربوية في أغلبها. فبين مدارس الأثرياء حيث الزبون (أي الطالب وأهله) على حق دائماً وأخرى حكومية حيث البلطجة أو التدين المظهري، تعاني أجيال متتالية على مدى السنوات الثلاثين الماضية من دون أن تدرك ذلك. «أغلب الظن أن أحمد مالك لا يدري معنى ما فعل. وأغلب الظن أيضاً أن اعتذاره واعتذار والده ومحاولاتهما الحثيثة لإرجاع ما فعله تارة إلى الإحباط السياسي وتارة إلى صغر السن وثالثة إلى نقص الخبرة، ما هي إلا محاولات لإنقاذ مسار الابن في مجال التمثيل وعمل الأب وسمعته» كتب أحدهم على «فايسبوك» ضمن آلاف الكتابات الصابة الغضب على الفيديو الذي بات الأشهر في مصر. ويمضي صاحب التدوينة مفنداً كلمات الممثل الشاب الذي كتب: «أنا عمري 20 سنة وساعات في السن ده الأفكار المتهوره تسبق التفكير العقلاني، وللأسف الغلطات دلوقتي بقت مسجلة ومصورة وده بيديها عمر وحجم أكبر من حجمها الحقيقي. دي لحظه تهور ولحظه مش محسوبة، وفعلاً ندمان عليها، وحاولت مسحها ولكن فوجئت أنها انتشرت قبل ما أقدر أنقذ الموقف. يمكن الموقف ده كله نابع من إحباط، عدم القدرة على التعبير عن الرأي اللي جيلي حاسه الأيام دي، بس برضه ده ميدينيش الحق اني اتجاوز أو أعبر عن رأيي بطريقه متجاوزه في حق الآخرين. أكتر حاجه مضايقاني إنه هيتم استخدام اللحظة دي لتشويه الثوار والثورة». الثوار والثورة بالفعل هم من دفعوا ثمن الفيديو. فالغالبية العظمى من المصريين شككت في مصداقية ما كتب مالك، لا سيما أن صديقه شادي رفض الاعتذار مؤكداً: «أعتذر عن ايه؟ الفيديو ما فيهوش حاجة. لو فيه حد مفروض يعتذر يبقى هما (الشرطة) ويحاكموا نفسهم على الانتهاكات اللي عملوها. إحنا مش هننزل نعمل مظاهرات، ومحدش هيهتف علشان برصاصة واحدة ممكن يقتلونا. طيب إحنا هنقعد نضحك عليكوا ونسف (نسخر)». السخرية التي طالما كانت وما زالت سلاح المصريين بفئاتهم وطبقاتهم للتعبير عن المسموح والممنوع تحولت إلى مصدر للخلاف. الاستشارية النفسية ومديرة مركز «إنسايد آوت» للاستشارات النفسية السيدة نجلا نجيب تقول أن ما فعله الشابان يعبر عن غضب وضعف حيلة. «هما محبطان ويشعران بالضعف ولذا لجآ إلى هذه الطريقة من السخرية للتعبير عن مشاعرهما». وتضيف: «لكن ما حدث هو أن السخرية – ولأنها غير مقبولة- أدت إلى رد فعل عكسي، إذ ظهر تعاطف شعبي جارف مع الشرطة ورفض كبير لما فعله الشابان. جانب من هذا التعاطف يعود إلى أن السخرية نالت من أفراد أمن بسطاء يقفون في الطقس البارد، والجانب الآخر يعود إلى أن المواطنين عقدوا مقارنات فورية بين الشابين الساخرين والشباب من رجال الشرطة والجيش الذين يموتون في كمائن ومداهمات وعمليات إرهابية دون ذنب». الطريف أن الفيديو الساخر قدم أكبر تلميع لسمعة الشرطة المصرية ومكانتها، وساهم في تعميق الفجوة بين قطاع من الشباب الثوري وبقية فئات المجتمع.

مشاركة :