بادن فورتمبيرغ... أرض تغازلها الشمس وغابات يحاصرها الظلام!

  • 2/1/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ما إن تباشر الطائرة بالهبوط في مطار شتوتغارت الدوليStuttgart Airport، سيبهركم ذلك البساط الأخضر الذي يهيمن على ثالث أكبر ولاية في ألمانيا ومن أكثرها خضرة. وفي حال استفسرتم عن اسم تلك الواحة الخضراء التي تلامس ضفاف نهر الراين، فسيأتيكم الجواب بأنها الغابة السوداء، أو كما تُعرف بالألمانية «شفارتسفالد» Schwarzwald، التي تقف بكل هيبة ووقار في حنايا ولاية بادن فورتمبيرغ Baden-Württemberg لتحتل مساحة 12 ألف كيلومتر مربع. أمام روعة ذلك المنظر البهي الذي يحبس الأنفاس، ستعلمون لماذا استوحيت من تلك البقعة التي تسكنها أشجار معمرة وكثيفة، أشهر كتب الحكايات الخرافية والأساطير الألمانية. ففي الغابة، يسكن الظلام لكثرة تشابك الأشجار الصنوبرية مع بعضها البعض، فتمنع حبال النور من اختراق أرضها. ولذلك تعرف بالغابة السوداء. وبعيداً من سواد الغابة، ستكشف لكم الولاية وأنتم تقتربون من عاصمتها شتوتغارت، بأنها تستحق لقبها الرائج «القسم المشمس من ألمانيا»، لأن الشمس تكرمها يومياً بوهجها الساطع لتحوّلها إلى إحدى أكثر الولايات الألمانية استقطاباً للسياح. اليوم الأول إنها «فرساي الثانية»! هذا ما ستقوله عندما تجد نفسك في حضرة مدينة أنيقة مليئة بالتفاصيل المعمارية الفخمة، التي ترقى إلى أكثر من 250 عاماً. فـ «كارل أويغن»، دوق فورتمبيرغ الذي حكم بين عامي 1744 - 1793، كان يحلم بجعل شتوتغارت فرساي الثانية. فقرر بناء القصور والمباني المهيبة التي لا تزال تتمتع بسحر ماضيها ووهج الأيام الغابرة. هنا ستكونون في لقاء مباشر مع القصر الجديد «نويه شلوس» Neues Schloss، الذي بناه الدوق عام 1746 وجعله يفيض جمالاً بهندسته الباروكية. إلا أن ذلك البناء الرائع لم يصمد خلال الحرب العالمية الثانية، فدُمّر بالكامل، لكنه أعيد بناؤه على غرار هندسته الأصلية، ليستخدم اليوم كمقر لعدد من الوزارت وإدارات الحكومة المحلية. وشتوتغارت تزيح الستار عن قصر العزلة «شلوس ساليتود»Schloss Solitude، الذي يعرض آخر روائع المباني الباروكية الملكية المشيدة على الأراضي الألمانية. فيه يغوص الزائر في حياة القصور في القرن الثامن عشر، وكيف كانت تعيش الأسر المالكة في هذا الصرح التاريخي المشيد عام 1764. ومن حياة القصور، عبرت إلى ساحات المدينة التي تنبسط بمساحاتها الشاسعة لتخلق جواً بديعاً للتنزه، وبخاصة ساحة القصر «شلوسبلاتز» Schlossplatz أكبر ساحات المدينة، والتي تسرد مراحل مهمة من تاريخ شتوتغارت، لأنها كانت جزءاً من حدائق القصر الجديد المخصصة للمناورات والعروض العسكرية. وببزوغ القرن التاسع عشر، تحولت إلى ساحة مفتوحة لعامة الشعب. وعلى مقربة منها، تربض ساحة «شيلربلاتز» Schillerplatz التي ترجعكم بمبانيها التاريخية إلى ماضي المدينة الجميل. يتوسطها تمثال للفيلسوف والشاعر والمؤرخ الألماني «فريديرك شيلر»، الذي رحل عن تلك البلاد عام 1805، تاركاً وراءه إرثاً أدبياً وثقافياً ضخماً أغنى المكتبة الألمانية والعالمية. إذا كنتم من محبي الزهور، فندعوكم الى الاستيقاظ باكراً أيام الثلثاء والخميس والسبت. ففي صبيحة تلك الأيام، تتحوّل ساحة «شيلر بلاتز» إلى مسرح مفتوح لسوق الزهور، التي تستقطب السكان المحليين لشراء أصناف الزهور الفواحة لتزيين منازلهم وأماكن عملهم. وفي حال تعذّر عليكم لقاء الزهور خلال الفترات الصباحية، فهناك مكان آخر ندعوكم إلى أحضانه. إنها حديقة الورود «روزينشتاين بارك»Rosenstein Park التي تعد أكبر حديقة للورود في جنوب غربي ألمانيا. فهذا ما أراده الملك «وليام الأول» عندما أسسها منذ أكثر من مئة وخمسة وسبعين عاماً. ولم يكتفِ بحديقة شاسعة المساحة مطرّزة بشتى أصناف الورود والزهور، بل بنى في وسطها قصره الصيفي «روزينشتاين كاسل» Rosenstein Castle الذي يحظى بموقع خلاب على تلة خضراء تشرف على نهر «نيكار»، الذي ينبع من الغابة السوداء ويترقرق بكل شاعرية في وسط المدينة. لم أغادر حديقة الورود من دون زيارة حديقة «فيلهيلما» Wilhelma للحيوانات والنبات، التي هي أكبر وأجمل حديقة حيوانية ونباتية في أوروبا. فيها كنت وجهاً لوجه مع حوالى 9 آلاف حيوان من فصائل متنوعة، تعيش وتتآلف مع بعضها تحت ظلال أشجار وارفة، وإلى جانب مئات الأصناف من الزهور والنباتات التي تجعل من ذلك المكان فسحة للترفيه لجميع أفراد الأسرة. ولذلك، لم أتعجب عندما علمت أنها تستقطب أكثر من مليوني زائر سنوياً.   اليوم الثاني ها أنا على مشارف بلدة «ميتسينغن» Metzingen التي لا تبعد من شتوتغارت سوى 30 كيلومتراً. وكم هي جميلة تلك البلدة ببيوتها نصف الخشبية التي تطل عليكم بطرابيش القرميد الأحمر التي تزين سطوحها، فترسم ملامح جميلة لبلدة ستعشقها من النظرة الأولى. وتحظى «ميتسينغن» بموقع جغرافي مميز وسط طبيعة خلابة في محيط منطقة الألب. أكثرية سكان البلدة الذين يصل عددهم إلى 23 ألف نسمة، يعيشون فيها لسبب واضح، ألا وهو وفرة فرص العمل فيها. فالبلدة هي ملتقى مصانع أشهر الماركات العالمية ومتاجرها. وهي أيضاً المكان الذي منه انطلقت علامة «هوغو بوس» لتشقّ طريقها إلى خارج الحدود الألمانية. ولا تزال تحتفظ منذ تاريخ تأسيسها عام 1924، بمقرها الرئيسي في وسط «ميتسينغن». إن نجاح هذه العلامة الألمانية للسلع الفاخرة في بلدة وديعة، شجّع العديد من الشركات الكبرى على اللحاق بـ «هوغو بوس». فاستقطبتهم البلدة وفتحت أبوابها لنحو 40 مصنعاً لإنتاج أشهر الماركات المعروفة اليوم. و «ميتسينغن» ليست فقط بلدة المصانع والمتاجر الصغيرة، بل هي أيضاً وجهة تسوّق عالمية لأكثر من 3 ملايين ونصف المليون زائر، والفضل يعود في ذلك إلى مركز «أوتليت سيتي ميتسينغن»Outlet City Metzingen الذي يجمع تحت سقف واحد، أكثر من 70 علامة تجارية بحسومات مغرية تصل أحياناً إلى 70 في المئة. وأستكمل الرحلة في ولاية بادن فورتمبيرغ لأصل إلى بلدة «باد أوراخ» Bad Urach، التي أكرمها الخالق بينبوع للمياه المعدنية الدافئة يقال إنه يساعد على الشفاء السريع للكثير من الأمراض الجلدية والصحية. وتشتهر البلدة بساحتها التي تأخذكم إلى أواخر القرون الوسطى، وحولها تصطف المباني القديمة المزينة بالخشب، والتي تحمل السمات الهندسية للقرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكم تبدو تلك الساحة التاريخية جميلة عندما يزورها الليل، فترتدي ستاراً ليلياً أنيقاً تضيئه الأنوار الملوّنة. ففي إمكان الزائر أن يتجول في الساحة ليستمتع بسحر المكان، أو أن يقوم بنزهة في الأزقة المتفرعة منها حيث الدكاكين الصغيرة لبيع التذكارات والمنتجات المصنعة محلياً، أو ربما ليتذوق الأطباق الشهية في أي من المطاعم التي تطيب فيها الجلسات والاستمتاع بشاعرية الليل وسكونه.   اليوم الثالث يقال إن الطريق الممتد على أطراف بحيرة «تيتي زيه» Titisee، هو من أجمل المناظر الطبيعية في أوروبا كلها. لذلك، لم أترك برودة الشتاء الألماني وزخات المطر التي كانت تبلّل وجه ذلك الصباح، أن تقف عائقاً أمام برنامجي السياحي. فتركت شتوتغارت وعجقة ناسها لأحلّ ضيفاً بعد ما يقارب الثلاث ساعات على بحيرة تعجز كلمات الإطراء والمديح عن وصفها. إنها «تيتي زيه» أكبر بحيرات الغابة السوداء، التي تتمادى بطول 2 كيلومتر وسط طبيعة غناء تضمّ عند أحد أطرافها تلالاً تضج بالأشجار الباسقة، وعند الطرف الآخر منازل ومنتجعات سياحية لإقامة رومانسية وهادئة بامتياز. لا يبعد وادي «هولينتال» Höllental كثيراً من البحيرة، لذلك قصدته فأدهشتني تضاريسه الجغرافية. فكم هو سحيق وضيق! فقاصد الوادي للمرة الأولى، سينتابه الشعور وكأنه يمر في نفق مظلّل بزرقة السماء. هنا عرفت لماذا يعني اسمه بالعربية «وادي الجحيم». فعلى رغم شكله الحالي، فهو أيضاً كالغابة السوداء لا يمكن نور الشمس اختراق جوفه بسبب الجبال الشاهقة المحيطة به. قد يتعجّب البعض لماذا اخترت ذلك المكان لزيارته، والجواب بمنتهى البساطة. فلكي يصل السائح إلى منتجع «هوفغوت شتيرنن» Hofgut Sternen، لا بد من أن يمر في الوادي. فمنه وصلت الى مكان تحوّل إلى قرية نموذجية لتمضية عطلة مثالية في قلب الغابة السوداء. سيخبركم العاملون في المنتجع، بأن تلك البقعة الجغرافية التي تحتضن مجموعة قليلة من المنازل، استقبلت عام 1770 موكب الدوقة النمسوية ماري أنطوانيت، عندما كانت في طريقها إلى باريس لعقد قرانها على الملك الفرنسي لويس السادس عشر، وهي بعمر الرابعة عشرة. ففي تلك الفترة، كانت طرقات الغابة السوداء عبارة عن مسارات ضيقة لعربات تجرّها الخيل، وكان يتوجب على المسافرين المبيت في أي مكان يصادفونه في الغابة في حال داهمهم الظلام، لتفادي أي خطر قد ينجم عن السفر ليلاً. لذلك، كان على الدوقة النمسوية التي أصبحت في ما بعد ملكة فرنسا، أن تمضي ليلتها مع حاشيتها في فندق متواضع مكان وجود منتجع «هوفغوت شتيرنن». وعند بزوغ الفجر، انطلق الموكب الملكي المؤلف من 36 عربة يجرها 450 حصاناً، في عباب الغابة ليشق طريقه نحو عاصمة النور. قمت بجولة بجوار المنتجع ودخلت أحد مطاعمه التي تُعنى بتقديم الأطباق المحلية، فنعمت بدفء المكان وبأجوائه التي نقلتني إلى بساطة العيش في المنازل الريفية. وكان نجم مأدبة الغداء كعكة الغابة السوداء المزينة بحبوب الكرز والكريما والشوكولا الأسود. مذاق شهي للغاية – فلا تنسوا تذوّقها عندما تحملكم الرحلة إلى هناك. وتهدي القرية النموذجية زوارها متعة التعرف الى إحدى أهم الصناعات اليدوية في ألمانيا. إنها صناعة ساعة الكوكو Cuckoo Clock المعروفة بساعة الوقواق. فمن الغابة السوداء انطلقت الساعة لتزين بيوت أكثرية الألمان، ولتصبح اليوم أحد رموز البلاد الوطنية والهدية التي يتمنى كثر حملها معهم إلى بلادهم. وعلى رغم مضي مئات السنين على بداية هذه الصنعة، فإنها لا تزال تصنع بالطرق التقليدية القديمة، وتستغرق صناعتها بضعة أسابيع. كل شيء فيها لا يزال كما كان منذ تاريخ صناعتها، بدءاً بالصوت وصولاً إلى ديكورها الأنيق الذي تتدلى منه أكواز الصنوبر، وتعلوه تماثيل لأشخاص بالزي المحلي أو روؤس لحيوانات تسكن الغابة. ولا ننسى العنصر الأساسي في الساعة، إنه طائر الوقواق الذي يخرج من مخبئه كل ساعة ليذكركم بالوقت. إنها السادسة ليلاً والوقواق أطل مجدداً ليعلن أن موعد زيارة الغابة السوداء انتهى. وحان الوقت لأودع مكاناً أسطورياً لا يزال يحتفظ بالكثير من أسرار الماضي وحكاياته التي لا تندثر.

مشاركة :