التغييرات الأمنية في الجزائر: سلطة آنية للرئيس نهايتُها الأفول والتمرد

  • 2/2/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بتفكيك الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة دائرة الاستعلامات والأمن المعروفة باسم (الدياراس) وإلحاق بعض فروعها برئاسة الجمهورية وقيادة الأركان، واستبدالها بـ «مديرية المصالح الأمنية (الدياساس)، تدخل الجزائر مرحلة جديدة من تاريخها، تتميز بأمرين، الأول: بروز خلافات حادة وعلنية بين مؤسسة الرئاسة والقادة الأمنيين الذين تم إبعادهم، قد تتحوّل في المستقبل المنظور إلى صراع، وهذا لم تعهده الدولة الجزائرية منذ الاستقلال. والأمر الثاني، إشراك الشعب الجزائري، ضمن خطاب سياسي سلطوي، يروج له إعلامياً في تلك التغييرات عبر وعود بمزيد من الديموقراطية وتكريس الحياة المدنية، حتى غدا الحديثُ اليومي في المقاهي والجلسات الخاصة والعامة هو مصير تلك المؤسسة. التغييرات تلك، تدفع إلى طرح جملة من الأسئلة، منها على سبيل المثل: ما الثابت والمتغير في العلاقة بين مؤسستي الرئاسة والأمن؟ وهل هي إيذان بأفول نجم الرئيس بوتفليقة أم هي تمديد لسلطته؟ وهل التغييرات الراهنة تمثل مصالح عليا للدولة يُحقِّقها الرئيس بوتفليقة ضمن أسس دستورية وشرعية، أم إنها انتصار لجماعات الفساد ستتحوّل إلى فوضى عامة في المستقبل؟ وهل التغييرات الخاصة هي مجرد تكتيك لمصلحة أجنحة داخل السلطة أم استراتيجية شاملة لتغيير مكانزمات العمل الأمني وأدواته، ومن ثم رجاله؟ وهل هي عمل داخلي خالص أم هي مطلب وضغط خارجيان؟ هنا محاولة لتقديم إجابة للأسئلة السابقة: ما يحدث بين مؤسستي الرئاسة والأمن في الجزائر، يشي بتدهور أمني مُقبل، قد يُعيد البلاد إلى صراع دموي، سيبلغ مداه في حال رحيل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لأي سبب كان، أو إذا استمر في سياسته الراهنة، وهي في الغالب ستتواصل، لأنها تخدم مصالح جماعات معينة تمثل تحالف الفساد مع السلطة. وعلى رغم أن المؤشرات والمعطيات تؤكد سيطرته التامة، وتمكنه من تطويع بعض قيادات الجيش، وإبعاد الرجال الأقوياء، إلا أننا في حقيقة الأمر أمام مرحلة تضيق فيها مساحة الأمن، بالتالي ستنتهي معها الحريات، وهذا يتناقض مع ادِّعاءات السلطة والإعلام القائمة على فكرة مفادها: إن إلحاق المؤسسة الأمنية بالرئاسة سيحدُّ من صلاحيتها، ويُبْعد الشعب عن قبضتها الحديد. على صعيد الخطاب الرسمي، هناك تأسيس مقصود لإيجاد عداوة تجاه المؤسسة الأمنية، بحجة واهية، هي تقييدها الحريات، في حين أن جميع الذين عايشوا أحداث العشرية الدموية يدركون أنها مثّلت الذراع القوية والحامية الشعب من الإرهاب، وأن توفير الأمن مثَّل أولوية لدى الشعب الجزائري في ذلك الوقت، من دون أن ينفي ذلك وجود تجاوزات وصلت أحياناً إلى درجة المأساة. وهذا يعني أن الخطاب الرسمي، وهو هنا خطاب الفريق المنتصر، ينطلق من أمرين، الأول: الدعم اللّامحدود للرئيس بوتفليقة أو بالأحرى للفريق الذي يرى في نفوذ المؤسسة الأمنية خطراً عليه، وهو بالطبع ليس خطراً على الدولة. الأمر الثاني: السباق مع الزمن للتمكّن من تفكيك تلك المؤسسة قبل الرحيل المنتظر للرئيس بوتفليقة. وبالنظر إلى التغيرات السريعة في الجزائر، فإن ظاهرها هو تمكّن بوتفليقة من إبعاد خصومه، وتخلّيه عن مناصريه الأوائل، وإبعاد الجيش والأمن من التدخل في الحياة المدنية. وهذا المسعى سيدخل في صدام مع التأسيس التاريخي للدولة الجزائرية الحديثة، دولة ما بعد الاستقلال، حيث بدأت سياسية من خلال قيام الأحزاب ضمن حركات التحرير المغاربية في أوساط الطبقة العاملة في فرنسا. وتحولت إلى العمل السري، وبعد ذلك إلى العمل العسكري بقيادة حزبية «جبهة التحرير الوطني». وأثناء الثورة، وتحديداً في 1957، تمَّ إنشاء جهاز الاستخبارات الجزائري بقيادة عبدالحفيظ بوصوف، وإليه يرجع الفضل في تكوين آلاف الإطارات، الذين قادوا هذا الجهاز بعد الاستقلال. إذاً، الحديث عن المؤسسة الأمنية الجزائرية اليوم، هو حديث الحاضر، لكنه نتاج التاريخ، والاقتراب منها بالتغيير أو الحل أو بإبعاد قادتها مسألة ظرفية ترتبط بفترة بقاء هذا الرئيس أو ذاك في الحكم، بدليل أن دورها يتراجع أو يتقدّم، وتتغير مسمياتها ووظيفتها، لكنها تظل موجودة على مستوى الفعل، ليس فقط لأنها خلال أكثر من 6 عقود كشفت عن كونها مرجعية في تحديد مسار الدولة الجزائرية فحسب، وإنما لأنها أثبتت حضورها القوي والفاعل في صناعة القرار السياسي، خصوصاً في شقه العسكري، أثناء التغيرات والهزات الكبرى في تاريخ الجزائر المستقلة. أدركت الحكومة الجزائرية الموقتة برئاسة فرحات عباس في الفترة ما بين 1958 و1960 أهمية المؤسسة الأمنية، فأسندت لقائدها عبدالحفيظ بوصوف وزارة الاتصالات العامة والمواصلات. وحين قامت الحكومة الموقتة الثانية في 1960 أصبح بوصوف وزير التسليح والاتصالات العامة المعروفة باسم (مالغ)، وشغل المنصب ذاته في الحكومة الموقتة الثالثة بقيادة بن يوسف بن خدّة ما بين 1961و1962، نظراً إلى تمكّنه من بناء جهاز استخباري قوي، حتى أن بعض الخبراء الأمنيين صنفه في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث الفاعلية، في نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي. وهذا التاريخ لا يزال مؤثراً إلى اليوم، لذلك يخشى كثر من السياسيّين ورجال الأمن وحتى القادة العسكريين من التغييرات الأخيرة التي أجراها الرئيس بوتفليقة، والتي بدأت بتغيير وإبعاد كبار القادة الأمنيين في مرحلة أولى، ثم حلّ دائرة الاستعلامات والأمن بمرسوم غير منشور في الجريدة الرسمية في مرحلة ثانية. لا شك في أن الاستخبارات الجزائرية بعد التغيير الأخير دخلت مرحلة جديدة بتسمية جديدة، هي الرابعة في تاريخها، بعد «المالغ» و «الأمن العسكري» و «المديرية العامة للوقاية والأمن». وهذا ليس أمراً جديداً، لأن رؤساء الجزائر بمعظمهم حاولوا تغيير دور هذه المؤسسة من خلال تغيير قادتها، ما يعني مشروعية وشرعية ما يقوم به الرئيس بوتفليقة، على رغم أن البعض يرى أن هذه ليست قرارته، وأنها تشي بنهايته الوشيكة: إما بالإبعاد بحجة عدم قدرته على العمل نتيجة المرض، أو باختيار شخص آخر. وتحوم التوقعات حول عسكري متقاعد سبق له أن مارس العمل السياسي ويحظى بتأييد شعبي.   ذاكرة الكراهيّة الجديد في التغييرات الحالية هو جرّ بعض القيادات الأمنية إلى المحاكم على خلفية أخطاء ارتكبوها تشتمُّ منها رائحة تصفية حسابات خاصة بين القادة العسكريين والأمنيين، هذا أولاً. والتدخل الدولي على غرار طرح ملف حادثة عين أميناس من جديد ثانياً. تلك العمليّة التي ذهب ضحيتها عدد من الرعايا الأجانب، إضافة إلى جزائريين. وهذا يعني غياب استراتيجية وطنية للتغيير، وأن هذه المرحلة تتحكم بها المناورات باعتبارها تكتيكاً لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الاستراتيجية. من ناحية أخرى، ليس بوتفليقة إلا رئيساً سبقه رؤساء آخرون في الجزائر، وليس بدعاً من الفعل ما يقوم به اليوم، وهو يتمم ما قام به سابقوه، ولكن بطريقة مختلفة وواضحة وعلنية، تَميّز فيها بالدهاء والقدرة على اختراق المؤسستين الأمنية والعسكرية. لكن تغييره لا يرى فيه البعض تغييراً مطمئناً، كونه ارتبط باتهامات قادة أمنيّين وتجريمهم، وقد يجر بعضهم، بحق أو بباطل، إلى المحاكم الدولية إذا لم يتمكنوا من إقصائه أو التمرّد عليه. الرئيس بوتفليقة لم ينس أن الأمن العسكري بقيادة قاصدي مرباح (اغتيل في آب - أغسطس 1993). هو الذي أبعده من الرئاسة بعد وفاة هواري بومدين، وبدعم منه اختير الشاذلي بن جديد رئيساً. لذا، هو يصفي اليوم حساباته مع جهاز الاستخبارات بطريقة تحمل كراهية دفينة في نظر البعض. ونتيجة لذلك لا يُتوقع نجاح تغييراته إلا لحين من الوقت، بل إنها قد تُعجّل برحيله من السلطة، خصوصاً أن التجربة التاريخية للمؤسسة الأمنية الجزائرية أثبتت صمود القيادات الأمنية وترفعها عن الصراع السياسي. والأمثلة هنا قائمة كأدلة قطعية، منها: أن المؤسس لأول لجهاز الأمن الجزائري عبدالحفيظ بوصوف قرر الانسحاب مباشرة بعد استقلال الجزائر، ولم يتورط في الأزمات التي عاشتها البلاد بداية من 1962، على عكس كثر من رفاقه في الثورة. ومن الأمثلة أيضاً أن عبدالله خالف المعروف باسمه الحركي «قاصدي مرباح» الذي أسندت إليه مهمة جهاز الأمن منذ 1962 وإلى 1979، المصادف لوفاة الرئيس هواري بومدين، على رغم الدور الذي لعبه في استخلاف الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد لهواري بومدين في الرئاسة، إلا أن ذلك لم يشفع له عند الشاذلي الذي قرر إزاحته من قيادة الجهاز. ومع ذلك، لم يرفض تعليمات الرئيس، كما لم يدخل في أي صراع ظاهر مع مؤسسات الدولة أو القيادات الأمنية. وينطبق الأمر على الذين جاؤوا بعده، منهم على سبيل المثل: نور الدين يزيد زرهوني، ومجذوب لكحل عياط، ومحمد بتشين. ومن الأمثلة أيضاً أنه حين احتدم الصراع في 1988 بين جناحين، الأول يمثله الشاذلي بن جديد والجنرال محمد بتشين والجنرال محمد عطا يلية والجنرال عبدالله بلهوشات، والجناح الثاني الذي كان يمثله كل من وزير الدفاع يومذاك الجنرال خالد نزار، والجنرالات عبدالمالك قنايزية وعباس غزيل ومحمد تواتي ومحمد العماري، وانتهى لمصلحة الفئة الثانية، وتكلل هذا النجاح بإقدام خالد نزار على حل المديرية العامة للوقاية والأمن وإبعاد محمد بتشين، لم يترتب على ذلك نقل الصراع إلى الشارع. تغير وضع المؤسسة الأمنية واهتزت مكانتها وسمعتها منذ أن بدأ إعمّار سعداني الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني هجوماً ضد الفريق محمد مدين، المدعو «توفيق»، انتهى بإحالته على التقاعد بعد أن قضى 25 عاماً في المنصب، ومعه تم حل جهاز «الدياراس»، واستبدل منذ 20 كانون الثاني (يناير) الماضي بمديرية المصالح الأمنية (دياساس)، بقيادة أحد أبناء الجهاز ممثلاً في الجنرال بشير طرطاق. ومع هذا التغير، تنتاب كثيراً من الجزائريين مشاعر خوف من صراع غير ظاهر ينخر المؤسسات العليا للدولة، بضغط من الخارج، وبتحالف مع قوى في الداخل. لكن أخطر ما في هذا التغيير هو بداية نقد قرارات رئيس الجمهورية من طرف القادة الأمنيين. وهنا تعد تصريحات الجنرال «توفيق» ورسائله مثلاً صارخاً. إنها البداية، وما سيأتي سيكون أكثر إيلاماً وأشد بؤساً للمؤسسة وللشعب ولعلاقة الجزائر بجيرانها وبالدول الأخرى.     * كاتب وصحافي جزائري

مشاركة :