كما كان متوقعاً، أقر الكنيست الإسرائيلي أول مشروعي قوانين، التي تعرفها المعارضة بالانقلاب القضائي، بأكثرية أصوات الائتلاف. وجاء هذا الإجراء تعبيراً عن إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على المضي في مشروعها، رغم المعارضة الجماهيرية الواسعة في البلاد والمظاهرات الضخمة، بل رغم التحذيرات الأميركية والدولية، وبدء سحب مليارات الاستثمارات الأجنبية. وهذا يدل على أن الحكومة تدوس على مدوس الوقود بلا حساب. التفسير لذلك هو أن هذه الحكومة تخوض معركة حياة أو موت ضد المؤسسة القضائية، وليست وحدها، بل هي تستعد لإكمال هذا المسار بمزيد من القوانين لاحقاً. وقد أكد ذلك وزير القضاء، ياريف لفين، الذي يقود عملية الانقلاب التي كان قد أعد لها منذ سنوات، بقوله: جهاز القضاء والقيادات السياسية وكبار الموظفين في جهاز الدولة لم يديروا إسرائيل كدولة ديمقراطية، بل أقاموا طبقة نخبوية حاكمة بسطوة وغطرسة على كل شيء. فجعلوا من المحكمة العليا «عائلية أو حمولة تضم المقربين»، ومن وسائل الإعلام منبر سموم ضد اليمين، ومن الجامعات دكاناً لليسار، وبفضلهم صار المستشار القضائي للحكومة فوق الدولة والشعب، وصار حكم الشعب منبوذاً. تكلم نتنياهو ولفين ورفاقهما بثقة بالغة في النفس عن «الانتصار الذي تحقق». وحسب تقديرهم، سترضخ المحكمة في نهاية المطاف وتقبل بحل وسط يكون مبنياً على إصدار حكم شكلي على نتنياهو في محاكمته على قضايا الفساد، يبقيه في الحكم. وكان محامو نتنياهو ورفاقه في الليكود قد رفضوا في الماضي الاقتراح الذي طرحه الرئيس الأسبق للمحكمة العليا، أهارون باراك، ويقضي بإبرام صفقة يعترف بموجبها نتنياهو بالتهم، ويصدر عليه حكم بدفع غرامة من دون سجن، شرط أن يعتزل السياسة. رفاق نتنياهو رفضوا الوساطة؛ لأنهم يعتبرون إصلاح القضاء مطلباً عقائدياً، من دونه لا قيمة لحكم اليمين. فأحزاب اليمين الديني التي تمثل المستوطنين وغلاة المتطرفين بقيادة سموتريتش وبن غفير، يرون فيها محطة ضرورية للسيطرة على الضفة الغربية، وكل ما يرافق ذلك من تعزيز وتوسيع للاستيطان، وتحويل المناطق الفلسطينية إلى كانتونات محاصرة بالمستوطنات والمعسكرات. وعلى أجندتهم إحداث فوضى وإسقاط السلطة الفلسطينية. وفي الأحزاب الدينية المتزمتة (الحريديم) يوجد حساب طويل وعسير مع المحكمة العليا؛ لأنها فرضت على أبنائهم الخدمة العسكرية الإجبارية، وحاولت تقليص نفوذهم في المدارس والمعاهد الدينية، وتحارب فكرهم الأرثوذكسي وسيطرتهم على المؤسسة الدينية. لكن ما يفهمه نتنياهو جيداً هو أن الحرب التي يخوضها ليست مع مجرد متظاهرين يرفعون شعارات، وليست مع المعارضة السياسية الضعيفة التي ستمل بعد بضعة أسابيع، ويمكن إجهاضها بعملية عسكرية في الضفة، كما حصل عام 2012. من يعارض خطته اليوم هي الدولة العميقة في إسرائيل، ومن يقود المظاهرات وينظمها ويمولها، هم أولئك الذين يمسكون بزمام الأمور والمفاتيح في الدولة، وهم مجموعة كبيرة من الجنرالات في جيش الاحتياط وقادة الأجهزة الأمنية، وهؤلاء ما زالوا بغالبيتهم يمثلون قوى الأمن ويعبرون عن مصالح أجهزتهم، ومعهم كبار موظفي الدولة. ومحافظو بنك إسرائيل السابقون، ومديرو البنوك التجارية، ورؤساء الجامعات ومعاهد الأبحاث (باستثناء معاهد الأبحاث اليمينية)، ومئات العلماء وبينهم الثلاثة الحاصلون على جائزة نوبل، وقادة القطاع الاقتصادي والهايتك، ورؤساء الأجهزة الطبية، وفوق كل هؤلاء جهاز القضاء، المحاكم والنيابة والمستشار القضائي للحكومة والمستشارون القضائيون للوزارات وللكنيست ونقابة المحامين. وقد نجح هؤلاء معاً في تجنيد تأييد لهم في الخارج، بدءاً بالرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته، إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والأمم المتحدة وأعضاء في الكونغرس الأميركي وقادة يهود الولايات المتحدة، وعلماء يهود من مختلف دول العالم. وهدد أصحاب الشركات والاحتكارات في أميركا وأوروبا وأستراليا بسحب استثماراتهم من إسرائيل. في الوقت الحاضر لا يزال الطرفان يبدوان أنهما يخوضان هذه الحرب رأساً برأس، وكل منهما يريد أن يكسر الطرف الآخر. نتنياهو يمضي في مشروعه ويسن القوانين، والقضاء يرفض أي حل وسط ويستعد للإعلان عن نتنياهو «متعذراً عن أشغال وظيفته كرئيس حكومة؛ لأنه يحاول التأثير على القضاء الذي يحاكمه بتهم الفساد». رئيس الدولة هيرتسوغ، ومعه حزبا المعارضة السياسية الكبيران، «يوجد مستقبل» بقيادة لبيد و«المعسكر الوطني» بقيادة بيني غانتس، معنيون بحل وسط، وكذلك الأصدقاء في الخارج. وهم ينطلقون في ذلك من المحاولة لإنقاذ إسرائيل من نفسها، ومنعها من التدهور إلى حرب أهلية. لكن، بعد التصويت في الكنيست على أول قانونين في الخطة، صار صعباً على لبيد وغانتس الدخول في مفاوضات حل وسط. وهما أصلاً يتعرضان لانتقاد قادة الاحتجاج؛ لأنهما لا يتصرفان كمعارضة مقاتلة ضد حكومة نتنياهو. ولهذا السبب لم يسمح لهما منظمو المظاهرات، بإلقاء خطاب في المظاهرات السبع الضخمة في تل أبيب، خلال الأسابيع السبعة الماضية. وبقي هيرتسوغ وحده في مهمة الوساطة. وقد تجاوزت المعركة الآن حدود القضاء، فإذا افترضنا أن هيرتسوغ نجح في مهمته وتوصل إلى تفاهمات على خطة الإصلاح، فهل ستشمل نجاة نتنياهو من المحكمة؟ الجهاز القضائي لا يبدي استعداداً لذلك. وإذا شملت الصفقة نتنياهو، فماذا سيحصل للموضوعات الأخرى؟ هنالك عدة ملفات متفجرة يريد حلفاء نتنياهو فتحها. الإصلاح في قوانين الصحافة والإعلام وملف الجامعات والأكاديمية. وهناك ملف وزارة الثقافة. وهناك القوانين التي يطلبها المتدينون، وكذلك الإجراءات التي يطالب بها بن غفير والتي تصل إلى إقامة ميليشيات مسلحة لفرض النظام والأمن في الوسط العربي وفي القدس الشرقية. وهناك مطالب سموتريتش لسحب صلاحيات من الجيش في الضفة الغربية. هذه كلها موضوعات ساخنة وقابلة للانفجار. نتنياهو ليس حراً في التعاطي مع أي منها، ويكتفي حالياً بإطفاء الحرائق، إلى حين حصوله على شيء ينقذ وضعه. والوضع المثالي عنده هو أن ينجو من المحاكمة ويبقى رئيس حكومة ويغير تركيبة حكومته. والأميركيون يسعون لذلك، ويحاولون إقناع غانتس ولبيد بالموافقة على حكومة وحدة وطنية مع نتنياهو، والتوجه إلى صفقة شاملة تشمل توسيع اتفاقيات إبراهيم وضرب إيران. لكن العثرات أمام هذا الحل ليست قليلة، فالدولة العميقة حتى الآن «لا تريد أقل من رأسه» حتى يصير عبرة لمن يتطاول عليها. وأربابها يقولون: نتنياهو قزم أمام دونالد ترمب الذي نجح الأميركيون في إسقاطه. فلماذا لا ننجح نحن هنا؟
مشاركة :