أحدث رد فعل واشنطن الميلودرامي الأخير على منطاد مدني صيني ضال وغير مأهول ضجة كبيرة داخل الولايات المتحدة وأذهل الكثيرين في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن بكين أوضحت الحادث مرارا وأعربت عن أسفها، إلا أن الحكومة الأمريكية وبعض وسائل الإعلام الأمريكية استمرت في تضخيم رواية "منطاد التجسس" وإسقاط البنتاغون للمنطاد. يبدو أن هذه الأفعال أثارت توترات جديدة بين الصين والولايات المتحدة، لا سيما في وقت يحاول فيه الجانبان تحسين علاقاتهما بعد أن اجتمع الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الأمريكي جو بايدن في بالي بإندونيسيا أواخر العام الماضي. وللعلم، فإن استخدام مناطيد مدنية أو غيرها من المركبات الهوائية لأغراض البحث العلمي ممارسة شائعة على الصعيد العالمي. إن رد فعل واشنطن الحاد على منطاد مراقبة الأرصاد الجوية لا يتعارض مع الفطرة العلمية السليمة فحسب، وإنما ينتهك أيضا الممارسة الدولية المألوفة والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. في الواقع، تعد الولايات المتحدة واحدة من الدول الرائدة في تطيير مناطيد عالية الارتفاع لأغراض المراقبة وغيرها. وما ينبغي أن نشير إليه هو أن مناطيدها كثيرا ما تدخل المجال الجوي لبلدان أخرى. وقد قامت مجموعات وأفراد مثل نادي "إس بي سي جي" الأمريكي للخدمات اللاسلكية بتطيير العديد من المناطيد عالية الارتفاع من الولايات المتحدة باسم خدمة المجتمع المحلي وهوايات الهواة. وقد حلقت تلك المناطيد، التي حملت أجهزة لاسلكي تعمل بنظام "إيه بي آر سي" وأجهزة مختلفة من أجهزة استشعار البيانات، فوق المجال الجوي لبريطانيا وروسيا والنرويج وأوكرانيا والصين واليابان وفرنسا وإيطاليا وكوريا الجنوبية والمكسيك والمملكة العربية السعودية وباكستان وميانمار وأفغانستان ودول أخرى عدة مرات. ومن الواضح أن مثل هذه الرحلات الجوية العالمية لا تتوافق مع ما يقال من نوايا. ووفقا لـ((بوليتيكو))، أنفق البنتاغون مليارات الدولارات على تطوير مناطيد استطلاع عالية الارتفاع منذ عام 1997 ونقل مشاريع المناطيد بهدوء إلى الخدمات العسكرية في عام 2022. ويمكن استخدام هذه المناطيد لتعقب صواريخ كروز الاستراتيجية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وتقوم الصين وروسيا بتطويرها. منذ العام الماضي، حلقت مناطيد أمريكية بشكل غير قانوني فوق المجال الجوي للصين أكثر من 10 مرات دون موافقة السلطات الصينية ذات الصلة. لكن الصين تعاملت مع تلك الرحلات الجوية غير القانونية لمناطيد أمريكية بطريقة هادئة ومهنية. وقد برهن ذلك احترام بكين للقانون الدولي وإخلاصها في إدارة العلاقات الصينية الأمريكية بشكل صحيح. لذا فإن السؤال هو: إذا ادعت الولايات المتحدة أن حادثة المنطاد الصيني انتهاك لسيادتها، فما هو التفسير لتحليق مناطيدها غير القانوني فوق الصين؟ من الواضح أن واشنطن لجأت مرة أخرى إلى المعايير المزدوجة. كما خانت التعهد المعلن بأنها "لا تسعى إلى صراع مع الصين". بالنسبة لبعض المتشددين تجاه الصين في الولايات المتحدة، قدمت ملحمة المنطاد بالفعل فرصة أخرى لتضخيم "التهديد الصيني". إذ أنه لفترة من الوقت، أدرج الجانب الأمريكي المزيد من شركات التكنولوجيا الصينية في القائمة السوداء لأسباب لا أساس لها من الصحة، ودفع حظر تصدير الرقائق إلى الأمام ضد الصين. ووفقا لعقلية الحرب الباردة الراسخة لديهم، تشكل صين صاعدة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا الفائقة، تهديدا خطيرا لسعي أمريكا للهيمنة العالمية. وكما نقلت مجلة ((ذي إيكونوميست)) عن المسؤول التجاري الأمريكي السابق وليام راينش قوله في مقال رأي نُشر الشهر الماضي، فإن واشنطن انتقلت من سياسة "الركض بشكل أسرع" إلى سياسة "الركض بشكل أسرع مع عرقلة الآخر". ينظر على نطاق واسع للعلاقات الصينية الأمريكية على أنها أهم علاقات ثنائية في العالم. وعلاقاتهما هذه هامة بالنسبة للمصالح الحيوية وطويلة الأجل للدولتين وكذا للسلام والتنمية في العالم. ولكن ما فعلته واشنطن في حادثة المنطاد دفع العالم إلى التساؤل عما إذا كانت صادقة أم راغبة في إقامة "حواجز" في العلاقات. في هذا العالم القائم بشدة على الاعتماد المتبادل، سوف تستفيد بكين وواشنطن من التعاون وتخسران من المواجهة. وبالتالي، فقد حان الوقت لكي تقوم الولايات المتحدة بمطابقة أقوالها بأفعالها، وتتعامل بشكل صحيح مع خلافاتها مع الصين، وتعمل مع الجانب الصيني على إعادة علاقاتهما المضطربة إلى مسارها من خلال إجراءات ملموسة.■
مشاركة :