من صور التعصب المذهبي في تاريخ المسلمين

  • 2/3/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من البدهيات التي لا يجحدها إلا مكابر أن البشر ليسوا على درجة واحدة في الفهم والعقل والعاطفة، أديان شتى، ومذاهب متفاوتة، ولا يمكن أن يكونوا البتة على دين واحد أو على مذهب واحد، أو على فهم واحد، ومن رام هذا رام المحال، ومن حاوله فهو متطلب في الماء جذوة نار. وليس بمستنكر، ولا هو من قبيل الخيال أن تكون هناك دولة صغرت أو كبرت تخلو من تعدد الأعراق، والمذاهب، والنِّحل والديانات. ليست هذه بمشكلة البتة، بل هي أمر طبيعي، والمسألة كلها مسألة قانون عادل يعمّ الجميع بلا وكس ولا شطط، ولا جور ولا حيف. لقد استطاعت الدول الغربية بعد صراعات دينية شديدة واقتتال عنيف أن تصل إلى حل يعيش فيه الجميع أفرادا تحت سلطة القانون. وكثيرا ما يلتبس الديني بالسياسي حتى يكون ذريعة للتوسع، وإيران خير مثال على هذا، إذ تبجح أحد مسؤوليها قبل مدة بأن 4 عواصم عربية أضحت في قبضتها! عرف كثير من دول المسلمين في التاريخ التعصب المذهبي، فكان لهذا تأثير في سياساتها ونظرها للآخرين، وصحيح أن هذا التعصب يتفاوت في الدرجة بين دولة وأخرى، وحالة وأخرى، إلا أنه كان حاضرا. تشيّع الخليفة العباسي المأمون -أو أظهر التشيّع- وشنّ حملة أشبه بمحاكم التفتيش على أهل الحديث، وامتحن الناس بعقيدة خلق القرآن، وصار هذا معيارا يقرب به أناسا ويبعد به آخرين، وينعم به على أناس، وينزل العذاب على خلافهم، ونال أحمد بن حنبل -رحمه الله- ما ناله من العذاب والاستكراه لولا أن ثبت وأصر على ما يعتقده أنه الحق. وكانت أياما سودا على الأمّة. أما في عهد الخليفتين القادر بالله ثم القائم بالله العباسيين، فقد انقلب الأمر! وتعصب الخليفتان للحنابلة في الأصول واشتد الأمر على المخالفين، وأصدر القادر بالله العباسي (فرمانا) ضمّنه اعتقاد أهل الحديث؛ وتوعد من خالفه بالويل والثبور، حتى ذكر ابن الجوزي في المنتظم -بسنده- "أن القادر بالله العباسي استتاب الفقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرؤوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى ما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود أمر أمير المؤمنين، واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإيعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام". هذا في عهد القادر بالله. أما ابنه القائم فأخرج اعتقاد والده لينتصر لأبي يعلى الفراء الحنبلي على الأشاعرة. حتى إذا ما تولّى الخليفة العباسي الناصر لدين الله، تشيّع؛ فظهر سب الصحابة علنا، ومال للشيعة على أهل السنة وضيق عليهم، وأوذي ابن الجوزي ونُفي في هذا السياق. وهل ننسى الدولة الفاطمية العبيدية وتضييقها على أهل السنة واستضعافها إياهم، ونصرتها التشيع بكل سبيل؟ حتى إذا ما انتصر صلاح الدين الأيوبي وكان شافعيا في الفروع أشعريا في الأصول، اشتد على المخالفين قامعا لهم، وفي هذا يقول المؤرخ أبو شامة في وصفه -أي صلاح الدين-: "وَمَا زَالَ ناصرا للتوحيد وقامعا جمع أهل الْبدع بالتبديد، شَافِعِيّ الْمَذْهَب أصولا وفروعا مُعْتَقدًا لَهُ معقولا ومسموعا يدني أهل التَّنْزِيه ويقصي أهل التَّشْبِيه". وأهل التشبيه يطلقها الأشاعرة في الغالب على الحنابلة. وورث الملك عثمان بن صلاح الدين من أبيه هذه الروح، وجرت فتنة بين الحافظ عبدالغني المقدسي الحنبلي وبعض الأشاعرة في الأسماء والصفات، فتوعد ابن صلاح الدين الحنابلة ومن وافقهم في مقالتهم أن يخرجهم من البلاد! ولكنه مات قبل أن يحقق وعيده. وكان القضاء في عهد الأيوبيين بيد الشافعية، حتى سن بيبرس الجاشنكير إقامة قضاة لكل مذهب من مذاهب أهل السنة. ويتسنن ملك المغول خربندا بن أرغون بن هولاكو، ثم تحول إلى المذهب الإمامي، فنصره أتمّ نصر، وأعلن سب الصحابة، واشتد على أهل السنّة، ثم تولى بعده ابنه أبو سعيد وكان سنيّا؛ فانقلب الأمر! أما دولة المرابطين في المغرب -وكانوا أهل حديث- فقد ساد فيهم (تكفير) كل من خاض في علم الكلام، ومنعت كتب أبي حامد الغزالي (وهو شافعي أشعري)، بل وصل الأمر إلى التهديد بالقتل وإباحة الدم لمن اقتنى شيئا منها. لكن ابن تومرت المصمودي كان أشعريا متكلما تلمذ للغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي، وكان حيثما حلّ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بما يرى أنه الحق، ويريق الخمور، والتفّ عليه جماعة، ثم نزع إلى الملك، وسمى دولته دولة الموحدين، ورمى خصومه بالكفر والتشبيه والتجسيم، وأحل دماءهم وأموالهم، حتى إنه قتل منهم سبعين ألفا! أما الصفويون فأجبروا الناس على التشيّع، وبقسوة ووحشية أحيانا، حتى انتشر المذهب الاثنا عشري في إيران التي كان يسود فيها المذهب السنّي. دخل العالَم كله العصر الجديد، وتجاوزوا ما بينهم من الخلافات الدينية، وائتلفوا وتعاونوا، وأنشؤوا اتحادات قوية، وتحالفات اقتصادية، والمسلمون لا يزالون يرثون أحقاد الماضي، ويقتاتون التاريخ!

مشاركة :