كان لوي آراغون في التاسعة والخمسين من عمره حين أصدر كتاباً جديداً له، في ذلك الحين، جعل عنوانه «الرواية الناقصة». كثر يومها دُهشوا لهذا العنوان متسائلين، خصوصاً قبل أن يطلعوا على الكتاب: ولماذا يكتب شاعر فرنسا وناثرها الأكبر رواية غير مكتملة؟ لماذا لا يأخذ وقته ويكملها ثم يرسلها الى قرائه وهم كثر؟ غير أن دهشة هؤلاء وتساؤلاتهم لم تكن شيئاً أمام دهشة الآخرين الذين إذ شاهدوا الكتاب واكتشفوا أنه شعر لا نثر، وأنه يتألف من عدد كبير من المقاطع الموزونة. تساءلوا: لكن ما بين أيدينا كتاب شعر، لا كتاب نثر. فلماذا سماه صاحبه رواية؟ يومها جاء الجواب بسرعة، ومن قلب الكتاب نفسه. وجاء مزدوجاً لأن الذين قرأوا الكتاب حقاً، سرعان ما اكتشفوا أن ما فيه إنما هو سيرة كتبها آراغون لنفسه شعراً، إذ ارتأى أن السطور المنمّقة الموزونة الموقّعة تخدم مزاجه في كتابة فصول حياته في شكل يرضيه ويسرّ قراءه. ثم لأن آراغون كان في ذلك الحين (1956) لا يزال «شيخ شباب» في عز قوته وإبداعه ومشاكسته، رأى أن أية سيرة ذاتية يكتبها لا يمكن إلا أن تكون غير مكتملة طالما أن من الطبيعي مجيء سنوات أخرى سيعيشها. وهكذا إذا عرف السبب بطل العجب. وصار في إمكان قراء آراغون ليس فقط أن يفهموا سر ذلك العنوان، بل كذلك أن يستمتعوا بأن يقرأوا بقلم آراغون تلك السيرة التي كتبها، حتى وإن كان قد تضاءل بعد ذلك، في شكل لافت، اعتماد مؤرخي حياة الرجل عليها كمرجع أساسي لدى تناولهم تلك الحياة. فالحقيقة، بعد كل شيء، هي أن «الرواية الناقصة تمثّل، لا أكثر ولا أقل، سيرة آراغون كما كان هو يراها في مرآة ذاته، مرآة الشاعر والناثر والسياسي، الذي كان أواسط سنوات الخمسين يعيش في معترك الصراعات، يسارياً مقابل اليمينيين، إصلاحياً مقابل رفاقه الشيوعيين الستالينيين، - بعدما كان حتى تلك السنوات واحداً منهم إن لم يكن في مقدّمهم -، كلاسيكياً مقابل المغرقين في حداثة لم تعد مفهومة، وعاشقاً دائماً لإلسا مقابل كل الذين كانوا قد توقّفوا عن الإيمان بالحب منذ زمن طويل. > إذاً، ما يمكننا قوله منذ الآن بشيء من الاختصار، أن آراغون أراد من هذا الكتاب (الذي لا بد أن نتذكر أنه نشره بعد ثلاث سنوات من موت ستالين، «غير مأسوف عليه» كما سيقول هو نفسه)، أن يكون سلاحاً في كل واحدة من المعارك التي أراد خوضها، وربما كي ينسى محبوه ما كان فعله قبل سنوات قليلة من كتابته قصيدة رثاء لستالين «تمجد ذكرى أبي الشعب ورائد الاشتراكية والشيوعية في العالم»، نشرتها «الأومانيتيه»، صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي يومها، مرفقة بلوحة لبيكاسو تمثّل ستالين نفسه. هذا كله كان عام 1953، لكن بعد ثلاث سنوات تبدّل كل شيء وبدأ ستالين يُلعن. وكان لزاماً - إذاً - على آراغون أن يفسر أو يوضح أو حتى يبرر. فهل كان ثمة ما هو أقدر على التبرير من نص جميل يُكتب شعراً، بقلم واحد من أعذب شعراء الفرنسية في أواسط القرن العشرين؟ هل كان ثمة ما هو أقدر على الإقناع من نص يخبئ خلف شاعريته الشكلية، كل أنواع التراجع وتمجيد الذات وتبرير ما فعلته؟ هذا هو إذاً جوهر هذا الكتاب الذي لا يمكن المجادلة أبداً حول جماله وجمال أشعاره... لكن أيضاً حول «صدق» ما صوّره آراغون فيه. صدقه - على الأقل - بالنسبة الى ما كان يفكر فيه، ويراه في نفسه، عند تلك المرحلة الوسيطة - والانتقالية جداً - من حياته. > تقنياً، إذاً «الرواية الناقصة» هي سيرة كتبها آراغون شعراً... وهو في هذا الشعر راح يتأمل ماضيه، أو الصورة التي كانت - في ذلك الحين - تملأ ذهنه عن ماضيه. وهكذا نجده، أرستقراطيّ اللغة هذا، يكشف للمرة الأولى أمام قارئيه، حكاية طفولته البائسة، هو الذي لفرط أناقته وأرستقراطية تصرفاته، كان الناس جميعاً يعتقدونه متحدراً من أسرة نبيلة كريمة. وبعد أن يتحدث آراغون ملياً في هذا الكتاب عن تلك الطفولة، واصفاً فيها خصوصاً وحدته وأشواقه الى البعيد، ينتقل الى الحديث عن الحرب العالمية الثانية وكيف عاش، مراهقا، فظاعاتها، لكن بخاصة كيف التقى خلال تلك الحرب، وكان قد أضحى طالب طب ميالاً الى الأدب والشعر، بذاك الذي سيلعب دوراً أساسياً في حياته وتوجهاته الأدبية: أندريه بريتون. ونعرف طبعاً أن هذين الصديقين أسسا معا، ومع فيليب سوبو «المجلة الأدبية» التي بدأت - عام 1919 - دادائية الاتجاه لتتحول بعد ذلك الى لسان حال للسوريالية التي ولدت على يديها وأيدي كتابها. وهذه الفترة يفرد لها آراغون في الكتاب صفحات عدة، لا تخلو من طرافة لكنها تبدو، في نهاية الأمر، أشبه بتصفية حسابات، إذ هنا من خلال أشعار جميلة ولا تخلو من عمق، لا يبدو آراغون إلا دائماً على حق. الكل مخطئ، والكل يغدر أما هو فدائماً على الصراط المستقيم، فإن أقدم على شيء من النقد الذاتي يتناول النقد طيبة قلبه وحبّه الآخرين ما يمكّنهم دائماً منه. غير أن هذا كله لا يرد في الكتاب في صيغة أيديولوجية أو تحمل أي قسط من الكراهية أو الحقد، بل ضمن إطار مراجعة الكاتب/ الشاعر لثلاثينات القرن العشرين التي شهدت أواسطها انتقاله الحاسم من السوريالية الى الشيوعية، ليس فقط كفكر، بل حتى كانتماء حزبي غير مقنّع. آراغون يحكي بصراحة عن هذه السنوات. بل يحكي عنها بطرب شديد... إذ هي أيضاً سنوات المرأة لديه، السنوات التي ربطته بكل حكايات الغرام التي ألهمت معظم أشعاره الجميلة ونصوصه النثرية، لا سيما حكايته مع إلسا، حبيبته الأساسية وملهمته وعصا الراعي التي جعلته يسرع بالانضمام الى القطيع الشيوعي صاغراً، في كل مرة كان يحاول فيها أن يتمرد أو ينظر بعض الشيء الى ما هو خارج الحظيرة. في هذا الإطار، كانت إلسا، ومن دون أن يتنبّه آراغون الى هذا كما يبدو، مفوض الحزب السامي في حياته وراعية التقرير السياسي الواصل يومها من اللجنة المركزية والمكتب السياسي، جاعلاً من كتابات آراغون، في بعض الأحيان - على جمالها - بوقاً للحزب وسادته السوفيات. هي سنوات الفرح بالنسبة الى آراغون إذاً. وإذ صار الآن عام 1956، كيف تراه تعامل مع تلك السنوات؟ بهدوء. بل بهدوء شديد، إذ ها هو في الصفحات المخصصة لذلك يتأمل معنى حياته وأفراح شبابه، كما يتأمل التزامه السياسي، محاولاً في صورة خاصة أن يبرر وبتبسيطية لا تليق إلا بالشعراء «سذاجة فكره الخيالي الذي كان يرسم له سراب عالم زاه، كان بالنسبة إليه يتطابق مع العالم الشيوعي الآتي حتماً من نضالات الكادحين»، كما كان يقول. لكن إذ انتظر طويلاً ولم يأت هذا العالم، وجد نفسه يبرر ذلك من دون أن يلقي بأية لائمة على تلك التي صورت له المجيء الحتمي لذلك العالم: إلسا. بالنسبة إليه إلسا هي الحب. والحب فوق كل شيء. ولئن كان في وسع قارئ «الرواية الناقصة» أن يلمح في سطور صفحاتها الأخيرة قدراً لا بأس به من الخيبة وشعوراً بالإخفاق، فإن «فرديتنا لا أيديولوجيتنا» هي المسؤولة عنه كما كانت إلسا تؤكد له. وهو، لأنه كان يحب إلسا، كان يجد الصدق كل الصدق في هذه التأكيدات. > كان لوي آراغون (1897 - 1982) حين كتب «الرواية الناقصة» يقترب من الستين من عمره، وكان مجده الأكبر كشاعر وروائي وناقد أدبي وفني قد أضحى وراءه، حتى وإن كان سيواصل بعد ذلك، وحتى السنوات الأخيرة من حياته، كتابة النصوص، شعراً ونثراً، وإصدارها، وبعضها سيصدر بعد رحيله. ذلك أن كتب آراغون الكبرى ومنها «انيسه» و «فلاح باريس» و «أجراس بال» و «أوريليان» و «الأحياء الجميلة» و «إلسا» و «عينا إلسا» و «متحف غريفين»، صدرت قبل «الرواية الناقصة»، فيما صدرت رائعته «مجنون إلسا» بعدها...
مشاركة :