بعد عام على الحرب الروسية الأوكرانية، بدا واضحاً أن الاقتصاد العالمي هو من تحمّل تداعياتها العميقة. فاتورة باهظة يدفع ثمنها الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى الكوارث الإنسانية المؤلمة. لم تميز الحرب في تداعياتها الاقتصادية بين الدول المتقدمة والنامية غير أن نسبة التأثر ربما اختلفت بين دولة وأخرى. تحمّلت الدول الأوربية جانباً رئيساً من تكاليف الحرب، إلا أن دول العالم لم تكن في منأى عن تداعياتها، وبخاصة الدول النامية التي تأثرت سلباً بالتضخم العالمي، وأزمة الغذاء، والطاقة والإمدادات عموماً. أكثر من 2.8 تريليون دولار هي تكلفة الحرب التقديرية حتى اليوم، وعلى الرغم من ضخامته، إلا أنه لا يعكس التكاليف الحقيقية للحرب، وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، واقتصادات الدول. تعرضت الشركات الأوربية لأعلى وتيرة إفلاس خلال ثماني سنوات، وبلغت معدلات التضخم سقفها الأعلى في 40 عاماً، وتعرض قطاع الطاقة إلى أزمة خانقة وخسائر فاقت تريليون دولار. ساهمت الحرب في زعزعة ثوابت الاقتصاد العالمي، واقتصاديات دول أوربا على وجه الخصوص، كما أن تأثيرها في قطاعات لوجستية انعكس سلباً على سلاسل الإمداد. أمن الطاقة والأمن الغذائي وسلاسل الإمداد من أكثر المتأثرين بالحرب، إضافة إلى تغذية الأزمة للركود الاقتصادي الذي تسببت به جائحة كورونا. الركود التضخمي من التداعيات المؤثِّرة، وأحسب أن تأثيره لم يكتمل بعد، بل ربما شهد الاقتصاد العالمي أزمة حقيقية مع مطلع العام القادم. البطالة ونقص الغذاء والإمدادات عموماً من تداعيات الحرب، إضافة إلى تأثر الأسواق المالية، التي ما زالت تعاني من ضبابية مؤثّرة في أدائها واستقرارها. تأثر القطاعات المالية، في أوربا على وجه الخصوص، وانعكاسات أسعار الفائدة المرتفعة، قد تتسبب في أزمة مالية عالمية خاصة إذا ما استمرت الحرب وامتدت لتشمل دول أوربية أخرى، وهو أمر غير مستبعد. إن كان هناك طرف رابح من الحرب، فربما كانت الولايات المتحدة التي زادت صادراتها من النفط والغاز إلى أوربا وبأسعار مرتفعة، كما أنها أعادت تشكيل قطاع الطاقة الأوربي، وتمكنت من عزل روسيا، وإضعافها اقتصادياً، وإحداث تحول إستراتيجي في صادرات الطاقة كانت الأكثر استفادة منه، وإضعاف دول الاتحاد الأوربي وفي مقدمها ألمانيا، وجعلها أكثر حاجة لأميركا. لم تكتف الولايات المتحدة بما أحدثته من ضرر فادح بالدول الأوربية، والاقتصاد العالمي، بل سعت جاهدة للإضرار بمنظمة أوبك، والدول المنتجة، من خلال محاولتها تسييس ملف الطاقة، ودفعها لاتخاذ قرارات مؤثرة على صناعة النفط والغاز العالمية، والتأثير السلبي على اتفاق أوبك بلس، ومحاولة تفكيكه تحت ضغط اتخاذ مواقف دولية ضد روسيا. نجحت المملكة في الموازنة بين المتطلبات الدولية، ومصالحها الاقتصادية، ومصالح الدول المنتجة. فهي من جهة أيَّدت قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالحرب الروسية الأوكرانية، ومطالبة روسيا بالانسحاب، إلا أنها التزمت في الوقت عينه باتفاق أوبك بلس، وبتنسيقها مع روسيا في شؤون النفط. لم تخلط المملكة بين ملفي السياسة والطاقة، ولم تسمح لأميركا بحملها على اتخاذ قرارات غير مؤمنة بها وبأهدافها. أثبتت السياسة النفطية السعودية نجاعتها، فعلى الرغم من العقوبات المفروضة على روسيا، واتخاذها قرار وقف إمدادات الطاقة للدول الأوربية، شهدت أسواق النفط استقراراً غير مسبوق، ولم تتأثر إمداداتها، أو تؤثر على الأسعار، وهو ما شهد به المراقبون بعد استيعاب المواقف السعودية النزيهة والعادلة المبنية على قراءة دقيقة لأسواق النفط، واحتياجاتها المستقبلية. وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، زار كييف، وأكد دعم المملكة للجهود الدولية الرامية لحل الأزمة الأوكرانية - الروسية سياسياً، ومواصلة مساعيها للإسهام في تخفيف الآثار الإنسانية الناجمة عنها. شهدت الزيارة تنفيذ ما وعد به سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، خلال اتصاله الهاتفي بالرئيس الأوكراني، وتقديم حزمة مساعدات إنسانية إضافية لأوكرانيا بمبلغ 400 مليون دولار، وتوقيع اتفاقية ومذكرة تفاهم بين البلدين تتضمن برنامج تعاون مشترك لتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا بقيمة 100 مليون دولار أميركي، و تمويل مشتقات نفطية بقيمة 300 مليون دولار كمنحة مقدمة من حكومة المملكة. أضرار فادحة تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية للاقتصاد العالمي، ومن المتوقع أن تتعمق الأزمة وتتصاعد تداعياتها، وتتسبب في أزمة اقتصادية مالية عالمية، وأزمة غذاء وإمدادات مؤثّرة، فالمؤشرات لا توحي بقرب انتهاء الحرب، وهو أمر سيدفع تكاليفه الباهظة العالم أجمع، دون استثناء.
مشاركة :