توقع مختصون بريطانيون أن يؤدي ارتفاع تكلفة إنتاج البترول في بحر الشمال التي تبلغ في المتوسط 60 دولارا للبرميل، إلى قيام بعض الشركات بنقل استثماراتها إلى منطقة الخليج العربي وتحديدا السعودية، نظرا لانخفاض تكلفة إنتاج النفط فيها مقارنة ببحر الشمال. ويعتقد الدكتور إيه جي مارتن الاستشاري في وزارة المالية البريطانية أن هذه الأزمة تنذر بنهاية صناعة النفط البريطانية، متوقعاً أن يشهد القطاع انتعاشا جديدا بحلول عام 2020، وكل ما نحتاج إليه الآن مزيدا من التعاون الدولي سواء بين الدول المنتجة أو بين الشركات. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن الحكومتين البريطانية والاسكتلندية تعلمان صعوبة الوضع في قطاع النفط ولذلك قررتا دعمه باستثمارات عاجلة بقيمة 500 مليون جنيه استرليني خاصة في مدينة أبردين، معتبراً أن زيارة رئيس الوزراء كاميرون للمدينة الأسبوع الماضي مؤشر على أن لندن لن تترك أبردين تواجه هذا الوضع العسير بمفردها. ولم تعد الاجتماعات "السرية" و"المكثفة" بين كبار المسؤولين في شركات النفط البريطانية وعدد من الوزراء البريطانيين "سرية" الآن. ليس فقط لأن وسائل الإعلام المحلية كشفت النقاب عنها، إنما أيضا لأن معظم المسؤولين في تلك الشركات لم يعد أمامهم غير الإفصاح عن تفاصيل ما جرى في تلك الاجتماعات، وعن مساعيهم مع الحكومة البريطانية لإنقاذ القطاع النفطي البريطاني من واحدة من أكبر الأزمات التي لحقت به، على أمل أن تخفف تلك الشفافية من حدة الانتقادات التي يتعرضون لها من حاملي الأسهم، جراء انخفاض معدلات أرباح شركات النفط البريطانية، ومن ثم تراجع قيمة أسهمها في بورصة لندن. وبالعودة إلى المساعدات العاجلة بقيمة 500 مليون استرليني، يرى كبار المسؤولين في صناعة النفط أن هذا المبلغ ضئيل لمواجهة تبعات انخفاض الأسعار، كما أنه يمثل نسبة بسيطة للغاية من المبلغ الذي يطالب به الأعضاء الاسكتلنديون في مجلس العموم البريطاني المقدر بنحو ثلاثة مليارات استرليني. وتشير آخر التقديرات الرسمية إلى أن الانخفاض الراهن في أسعار النفط والغاز سيؤدي إلى إغلاق نحو 50 حقلا إنتاجيا في بحر الشمال، وسيسفر الإغلاق ليس فقط عن انخفاض العائدات البريطانية من النفط والغاز بمليارات الجنيهات، بل سيؤدي أيضا إلى إنهاء خدمات مئات من العاملين في هذا القطاع الحيوي، بما يعني اعتمادهم على الإعانات الحكومية لتوفير مستلزماتهم الحياتية، وما يمثله ذلك من ضغط على الميزانية العامة التي تسعى الحكومة البريطانية إلى سداد العجز الراهن فيها. ويعتقد بعض مختصي النفط البريطانيين أنه حتى إذا راوح سعر برميل البترول بين 33 و85 دولارا للبرميل، فإن ما يعادل 140 حقلا نفطيا سيتم إغلاقه خلال السنوات الخمس المقبلة نظرا لارتفاع تكلفة الإنتاج. وحول تأثير الوضع الحالي في قطاع النفط البريطاني في الاقتصاد الوطني، أوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور جون نيل المختص في مجال الطاقة، أنه خلال 18 شهرا الماضية خسر القطاع النفطي نحو 65 ألف وظيفة، أغلبهم في مدينة أبردين الاسكتلندية التي تعد مركز صناعة النفط في المملكة المتحدة، وهذا العدد يمثل نحو 15 في المائة من إجمالي قوة العمل في القطاع النفطي، وأغلب التوقعات تشير إلى ازدياد الوضع تدهورا مع تواصل انخفاض الأسعار، وعدم رغبة الشركات في التخلي عن الاستثمار لعدم جدواه في الوقت الحالي. وأعلنت شركة بريتش بتروليم "بي بي" تسريح نحو 4000 عامل خلال الفترة المقبلة وستوقف نحو 68 مشروعا على مستوى العالم بقيمة إجمالية تبلغ 380 مليار دولار. ويضيف نيل أن "انخفاض أسعار النفط يفترض نظريا أن يؤدي إلى تراجع أسعار المواصلات والنقل ومن ثم انخفاض تكلفة الإنتاج، لكن في الواقع العملي ونظرا لتضرر الشركات البريطانية المنتجة للنفط من انخفاض الأسعار، فإنها لم تقم بتحويل التراجع في سعر برميل النفط للمستهلك البريطاني بصورة تتلاءم مع انخفاض النفط في السوق العالمية، وقد بررت الشركات هذا السلوك بأن الضرائب الحكومية عليها لا تزال شديدة الارتفاع". لكن المشكلة الكبرى التي تواجه شركات النفط البريطانية تتمثل في تراجع أرباحها بمعدلات كبيرة، فعلى سبيل المثال انخفضت الأرباح السنوية لـ "بريتش بتروليوم" بنحو 51 في المائة عام 2015 لتصل إلى 5.9 مليار دولار مقابل 12.1 مليار في 2014، كما تراجعت الأرباح في الربع الأخير من العام الماضي إلى 196 مليون دولار فقط مقابل 2.2 مليار دولار في عام 2014. وامتدت الخسائر إلى القطاعين الاستراتيجيين في الشركة وهما الاستكشاف والإنتاج فتكبدا خسائر بلغت 728 مليون دولار خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي. ويقول لـ "الاقتصادية"، بيتر إلين نائب مدير قسم الأبحاث في مجموعة "إل آند دي" لأبحاث الطاقة، "إن تراجع أرباح "بريتش بتروليم" أسفر عن اتخاذ قرار بإنهاء خدمات عشرة آلاف عامل خلال هذا العام والعام المقبل، لكن الأكثر خطورة أن الشركة أعلنت أن أرباح الأسهم ستظل دون تغيير عند عشرة سنتات للسهم الواحد"، مشيراً إلى أن هذا انعكس سريعا على قيمة السهم في بورصة لندن، إذ انخفض بنحو 8.7 في المائة. ونظرا لتركز صناعة النفط البريطانية في مدينة أبردين، واعتماد اقتصاد المدينة بأكملها على عوائد النفط، فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي فيها آخذ في التدهور بشكل سريع، ويشير تقرير لمؤسسة "أوكسفام" الخيرية البريطانية إلى أن أبردين التي ظلت لسنوات من أكثر المدن البريطانية ثراء، تواجه الآن وضعا وصفه البعض بـ "المحنة"، فظاهرة الطوابير الممتدة أمام مصارف الغذاء آخذة في التزايد، فيما يرتفع عدد المطالبين بالحصول على إعانات اجتماعية بنحو 72 في المائة. وأشار لـ "الاقتصادية"، كولين رفكاند من مؤسسة "أوكسفام" الخيرية، إلى أن عدد طرود الطعام المقدمة إلى المحتاجين في المدينة تضاعفت في 2015 مقارنة بعام 2014، "فالناس في المدينة اعتادوا على تحقيق عوائد مالية كبيرة جراء أسعار النفط المرتفعة، لكن الوضع الآن سيئ للغاية، ونتخوف أن يزداد الوضع سوءاً هذا العام، إذ إن 200 ألف عامل من إجمالي عدد العمال في المدينة قد يصبحون عاطلين نتيجة انخفاض أسعار النفط".
مشاركة :