ابتسامة لـ«الشيطان الأكبر» واستكبار في وجه العرب

  • 2/4/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

سيمر وقت طويل قبل أن تتمكن إيران – الدولة والشعب – من استيعاب «صدمة» الانفتاح على عالم الغرب الأوروبي والأميركي. وكما يتمهّل الخارج من العتمة إلى النور لكي يتبين طريقه ويحدد اتجاهه، يحتاج الإيرانيون إلى التروّي قبل أن يندفعوا إلى «الحياة الجديدة»، هذا إذا توافرت لهم السبل إلى ذلك. لكن، على أي حال، يمكنهم أن يتوقعوا تبدُّلاً في نمط عيشهم وفي علاقاتهم مع سواهم من الشعوب، القريبة منهم والبعيدة. البعض يصف قرار رفع العقوبات عن إيران بفترة اختبار لسلوكها وتعاملها مع الأنظمة والقوانين الدولية. وبعض آخر يعتبر هذا القرار الثمرة التي طال انتظار قطافها بعد 37 سنة من إطاحة حكم الشاه. لكن، بالأمر الواقع، سيكون على النظام الإيراني أن يغيّر سلوكه، وأن يصحّح اتجاهه، هذا إذا كان عازماً على مواجهة حقائق العصر، وأولاها في داخل بيته، قبل أن يتطلّع إلى الخارج. ولعلها مصادفة مرتّبة أن تُسلَّط الأضواء على الشعب الإيراني في مرحلة دعوته إلى انتخاب مجالس اشتراعية وتنفيذية، مدنية وشرعية. هناك ملايين من الأجيال الإيرانية الجديدة مدعوّة إلى المشاركة في قرار اختيار من يمثّلها في تطلّعاتها إلى المستقبل، وسيكون من الصعب على النظام أن يحبس إرادة هذه الملايين التي تشكّل نسبة 70 في المئة من مجموع الشعب الإيراني، وقد باتت مرتبطة بشبكة التواصل الاجتماعي عبر الكون. تسمع أصوات العالم الجديد، وتتمنى التعرُّف إليه بعد أن فتحت الأبواب بينها وبينه، ولا بدّ من أن لتلك الملايين مرشحيها من الإصلاحيين الذين يتطلّعون إلى غدٍ أفضل. اختار الرئيس الإيراني حسن روحاني أن يعود إلى عالم الغرب من الباب المسيحي الأول (الفاتيكان) حيث أعد له استقبال بسيط لكنه مثقل بالرموز والتفاصيل الصغيرة. ففي إحدى قاعات المقر الزاخر بالمهابة كانت طاولة مستطيلة حولها من الجانبين أربعة مقاعد. جلس المضيف البابا فرنسيس بردائه الأبيض، وإلى يساره مترجم راهب بلباس الكهنوت الأسود. وفي المقابل جلس الرئيس الشيخ الروحاني بالعباءة السوداء والعمامة البيضاء، وإلى يمينه سيدة مترجمة على رأسها حجاب بلون غامق. دولتان تتقابلان وجهاً لوجه. الدولة المضيفة ليس لها شعب، لكنها راعية روحية لأمة مسيحية كاثوليكية منتشرة على مساحة الأرض، متعددة اللغة واللون، ولها «جيش» مؤلف من فرقة وحيدة هي فرقة حرس الشرف وجنودها من المتطوعين السويسريين. لكن الفاتيكان دولة لها وزارة خارجية ولها سفراء. صحيح أنهم في سلك الكهنوت لكنهم ديبلوماسيون محترفون، ولهم مهمات وأدوار لا تقل أهمية عن أدوار سواهم من سفراء الدول الكبرى الذين يتدخّلون في شؤون الدول الأخرى. في المقابل، الجمهورية الإيرانية هي دولة لها شعب يقترب تعداده من المئة مليون، ولها جيوش وأساطيل جوية وبحرية، ولها سفراء وأجهزة استخبارات منتشرة في أنحاء العالم.   هدايا رمزية الهدايا المتبادلة بين المضيف البابا فرنسيس والضيف الرئيس الشيخ روحاني كانت أيضاً ذات رمزيات ولها دلالاتها ومعانيها. فقد حمل الضيف إلى مضيفه سجادة مشغولة بالإبرة الإيرانية. والإبرة الإيرانية ذات معان متعددة، أولها الدقة، والصبر، والأناة. لكنها تعني أيضاً الوخز. أما هدية البابا فرنسيس إلى الروحاني الرئيس والشيخ، فكانت ذات دلالات ومعانٍ مختلفة. هي ميدالية «القديس مارتن» الذي تفيد سيرته أنه عاش في القرن الرابع الميلادي في بلاد «الغال» وهو من عائلة وثنية، وكان جندياً في جيش القيصر «يوليانس»، وكان اعتنق الديانة المسيحية، وكان عليه أن يشارك في الحرب لصد هجوم شنته قبائل معادية على بلاد «الغال» (التي دخلت في الأراضي الفرنسية). لكن الجندي «مارتن» رفض تنفيذ الأمر، وذهب إلى الإمبراطور ليقول له بشجاعة إنه كمسيحي لا يليق به أن يحارب، فثار القيصر غضباً على «مارتن» ووصفه بالجبن، لكن «مارتن» تشجّع وقال للقيصر أنه مستعد لأن يتجرد من سلاحه ليقف أعزل على خط النار في مواجهة الأعداء. فما كان من القيصر إلا أن أمر بزج «مارتن» في السجن حيث بقي حتى نهاية الحرب، وحين أُطلِق سراحه انضم إلى جمعية «رهبان موحّدين». ويقال أن مارتن «الراهب الوديع الشجاع» الذي يكره الحروب، ويقاوم الدعوة إليها، دعي إلى عيادة فقير مريض فلبى الدعوى، وكان الطقس مصقعاً، ولم يكن «مارتن» يملك سوى معطفه، فخلعه على المريض، وكان أن شفي المريض، ثم كان أن رُسم الأخ مارتن قديساً. هذا حدث في أزمنة كانت القوى الروحية تفعل العجائب. لذلك، قال البابا فرنسيس للرئيس روحاني وهو يقدّم إليه ميدالية «القديس مارتن»: نتمنى عليكم أن تعملوا لإحلال السلام والاستقرار في دول الشرق الأوسط، وذلك لمنع انتشار العنف والكراهية. لم يكن روحاني غريباً عن روما، ولا عن باريس. وهو كان في العاصمة الفرنسية زائراً قبل نحو ثلاث سنوات، وإذا كان غادر العاصمة الإيطالية إلى باريس بعقود عسكرية وفنية تخطّت أرقامها ثمانية بلايين دولار، فإن الحصّة الكبرى كانت لفرنسا التي سبق لها أن احتضنت قيادة الثورة الإيرانية، وفيها تكوّنت دولة الثورة، وإليها كانت تتقاطر وفود كبار الزائرين الرسميين والسياسيين لمقابلة الإمام الخميني الذي وفّرت له الحكومة الفرنسية الإقامة المميزة في «نوفل لوشاتو» على مقربة من باريس. وكانت إلى جانبه مجموعة من الإصلاحيين المدنيين.   استثمار الطائرة الفرنسية في ذلك المربع الأمني، انطلقت صرخة ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في السادس عشر من كانون الثاني (يناير) 1979. وفي صباح اليوم التالي، أخذت طوابير الفرنسيين والسياح من أنحاء العالم تتوقف على رصيف جادة «الإيليزيه» في قلب باريس لتتأمل صورة مكبرة للإمام الخميني تملأ جدار مكتب شركة الطيران الإيرانية. وقبل ساعات قليلة كانت على ذلك الجدار صورة شاه إيران رضا بهلوي بلباسه الإمبراطوري، وقد تمزّقت. ولا بدّ من أن الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني استعاد تلك الساعات في 26 كانون الثاني الماضي وهو يعبر «الشانزيلزيه» إلى القصر الرئاسي حيث كان لقاؤه المثمر مع الرئيس فرنسوا هولاند. كان الخميني قد عاد إلى طهران على طائرة «آرباص» فرنسية خاصة، ومعه بعض أركان دولته، ولقد أعطت تلك الرحلة ثمارها بعد سبع وثلاثين سنة. ذلك أن روحاني غادر «الإيليزيه» تاركاً على طاولة الرئيس فرنسوا هولاند عقداً بشراء 118 طائرة «آرباص» فرنسية. ولعل السؤال الذي يتردّد في عواصم الغرب والشرق حالياً: ماذا ستكون حصص الدول التي شكّلت «هيئة محكمة» الإفراج عن أرصدة إيران المجمدة ببلايين الدولارات في صناديق الإدارة الأميركية وسواها. أياً تكن الأجوبة، ثمّة حقيقة، وهي أن إيران دخلت مرحلة استعادة زمن الشاه من الغرب الأميركي الأوروبي: طائرات. يخوت. سيارات. قطارات. تكنولوجيا. مصانع. شركات. فنادق. عدا الانفتاح على مستلزمات حياة العصر لتشريع الأبواب أمام أرباب السياحة لاكتشاف آثار الدولة الفارسية وحضارتها عبر أزمنة تاريخها القديم. هذه رؤية تدور في أذهان مراقبين يتوقّعون أن تكون المرحلة التي تُقبل عليها إيران فاصلة بين ماضيها ومستقبلها. وبناء على هذه الرؤية ترتسم علامات الاستفهام حول الاستراتيجية السياسية التي ستعتمدها طهران في علاقاتها مع مجموعة الدول التي تنتشر حولها في محيط الشرق الأوسط. ولعل السؤال يتركز حصرياً على ما تضمره الدولة الإيرانية «الحديثة» التي ستبدأ قريباً رحلة الخروج من حال العجز والتردّي الاقتصادي والصناعي والاجتماعي والسياسي إلى عالم الانفتاح على الآخر القريب والبعيد: هل تضمر إيران نية سليمة للتعامل مع الدول القريبة، كما البعيدة، وفق أحكام القوانين الدولية والمصالح المشتركة؟ وهل لديها العزم على بناء علاقات متينة على قاعدة المعاملة الحسنة، والنيّة الطيبة؟ وهل ستلتزم مبادئ الصدق والحرص على الأمن والاستقرار والتعاون للخير العام لدول المنطقة، فلا تتدخّل في شؤونها، ولا تحاول زرع الخلافات ولا إثارة الشكوك والنزاعات بين مكوناتها الوطنية والاجتماعية؟ أسئلة بدأت تدور في الغرف السياسية في أكثر من دولة عربية، خصوصاً في الدول المتضرّرة والقلقة على أمنها وعلى استقرارها الوطني بسبب نشاطات إيرانية مكشوفة ومستترة. ثمة أسباب كثيرة تدعو إلى الحذر في المراحل الآتية، أهمها أن المؤسسة الإيرانية الرسمية تتكلم مع العرب بلغة وبوجه، ومع الغرب الأوروبي و«الشيطان الأكبر» الأميركي بلغة أخرى وبوجه آخر مع الابتسام. تبتسم للغرب أما العرب فتحاول أن تتصنع أمامهم الاستكبار، وتقع في المعصية.     * كاتب وصحافي لبناني

مشاركة :