بعد مرور عام على «الحرب الأوكرانية»، ركزت التعليقات الغربية على الانتكاسات العسكرية والاستراتيجية لروسيا. وعلق «لورانس فريدمان»، في «كينجز كوليدج لندن»، بأن «بوتين»، قاد بلاده إلى «حرب طويلة الأمد لا يجرؤ فيها على الاعتراف بالهزيمة مهما بدا الطريق إلى النصر بعيد المنال»، وأوضحت «ماريا شاجينا»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، أن الاقتصاد الروسي يعاني الآن من «الخنق البطيء»، الذي تسبب فيه عقوبات الغرب. وبالإضافة إلى تفاقم الأزمات المالية العالمية، ومشاكل الأمن الغذائي، وتقلبات سوق الطاقة، وتصاعد المنافسة بين القوى العظمى؛ رأى «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن الحرب أدت إلى زيادة «الانقسامات الجيوسياسية»؛ حيث أفرزت «وضعا سياسيا»، من ثلاث مجموعات مختلفة من الدول، لكل منها قيم ومصالح متضاربة، ما بين أولئك الذين يدعمون روسيا، مثل (روسيا البيضاء، وإيران، وكوريا الشمالية، وسوريا)، والذين تعهدوا بدعم أوكرانيا، وتشمل (الدول الغربية وحلفاءها)، ودول (تقاوم التدخل و/أو تحتاط في رهاناتها). وبشكل أساسي، تتكون الكتلة الأخيرة من دول في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي كانت قبل الحرب تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية مع كل من روسيا والغرب، دون اعتماد على أحدهما، فيما يترددون الآن في الانحياز إلى طرف على حساب الآخر. وامتدادًا إلى الحسابات الدقيقة للدول حول الحرب؛ أظهر «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن الآراء العامة حول نهايتها، والتصورات عن روسيا، والحاجة إلى حماية الديمقراطية، غالبًا ما تتناقض الرؤية تجاهها في الدول غير الغربية -لا سيما الهند والصين وتركيا- مع تلك الموجودة في أمريكا الشمالية وأوروبا. وعلى الصعيد الدولي، فإن الانقسامات بين الدول الغربية وغير الغربية، تتسم بالضبابية في الأمم المتحدة. وبينما استخدمت «موسكو»، حق النقض (الفيتو) لمنع قرارات مجلس الأمن التي تدين أفعالها؛ أصدرت «الجمعية العامة»، إدانات متعددة منذ بدء الحرب. وفي الآونة الأخيرة، سجل «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، أنه على الرغم من تمرير الجمعية العامة لقرار آخر يدين روسيا، ويطالب بانسحابها غير المشروط والفوري من أوكرانيا «بأغلبية كبيرة»؛ فإنه كان معروفا مسبقا امتناع العديد من الدول عن التصويت، بما في ذلك الصين، والهند، وجنوب إفريقيا، وهي حقيقة تؤكد «عدم اكتراثهم بما اعتبروه حرب الغرب». وكما أشار «أليكس فاينز»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فإن معظم معارضة الإدانات في الأمم المتحدة لروسيا، جاءت من الدول الإفريقية. وجاء قرار 17 دولة إفريقية، بما في ذلك الجزائر، وجنوب إفريقيا، والمغرب، وإثيوبيا، إما بالامتناع عن التصويت، أو التصويت بالرفض لقرارها بإدانة موسكو. علاوة على ذلك، سلط المحللون الضوء أيضا على مطالبة الدول غير الغربية بالتوصل إلى تسوية سلمية سريعة للحرب، حتى لو تطلب ذلك تنازلات من أوكرانيا، والتغاضي عن المعايير الدولية. وبالفعل، فإن «الإجماع الجديد»، في أوروبا على أن «النصر الأوكراني» فقط، هو الذي سيوقف الحرب -وهو ما أكده «مارك ليونارد، وتيموثي جارتون»، و«إيفان كراستيف»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» - يتناقض مع «سعي الدول الإفريقية والآسيوية لإنهائها بسرعة، في ضوء «آثارها الضارة على الاقتصاد العالمي». وفي حين أوضح «جيرالد فايرستاين»، من «معهد الشرق الأوسط»، أن «المواقف الشعبية»، تجاه العملية العسكرية الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «لا يزال يتعين قياسها»، نظرًا إلى كيفية استمرار برنامج الغذاء العالمي في التحذير من أزمة انعدام الأمن الغذائي بنسب غير مسبوقة من قبل. ووجد «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن 54% من الهنود، و48% من الأتراك، و48% من الصينيين، يريدون إنهاءها في أقرب وقت، حتى لو تنازلت «كييف» عن أراضيها لموسكو، فيما يوجد تصور مماثل في دول الشرق الأوسط وإفريقيا، والتي تعانى شعوبها من زيادة التضخم، ومشاكل انعدام الأمن الغذائي. وعلى الساحة الدبلوماسية، لم يكن لتأكيد «الولايات المتحدة»، الحاجة إلى حماية الديمقراطية الأوكرانية -والذي لاقى صدى لدى الأوروبيين- نفس التأثير بالنسبة إلى المراقبين غير الغربيين. وأوضح «ليونارد»، و«جارتون»، و«كراستيف»، أن حديث «بايدن»، عن «الحرب»، باعتبارها «صراعا بين الديمقراطية والاستبداد»، لا يوفر «حجة مُقنعة لمناشدة مواطني الدول غير الغربية»، في إشارة إلى التصورات غير المتطابقة بدول تعتبر نفسها «أفضل الديمقراطيات» في جميع أنحاء العالم. وبالفعل، تُظهر استطلاعات الرأي أن 77% من الصينيين يعتقدون أن بلادهم هي الأقرب إلى «ديمقراطية حقيقية»، وهو تقييم سيرفضه الجمهور الغربي بشدة، وهو ما يُدلل على وجود قيم ومعايير مختلفة. وعلى الرغم من إشارة «وينتور»، إلى كيفية تحول مؤيدي أوكرانيا الغربيين إلى استناد دعمهم لـ«كييف»، على أنه مسألة «الحفاظ على وحدة الأراضي والسيادة، بدلاً من الدفاع عنها كدولة ديمقراطية»، إلا أن حتى هذه الحُجة قد فشلت في إقناع دول ذات مصالح مقسمة بين الغرب وروسيا. علاوة على ذلك، تمت الإشارة إلى كيفية استفادة روسيا من مستويات مستقرة من الدعم والتصورات الجيدة المؤيد لها في عديد من الدول غير الغربية على الرغم من استمرار حربها. وبينما يعتقد 77% من البريطانيين، و71% من الأمريكيين، و65% من مواطني دول الاتحاد الأوروبي، أنها إما «ند»، أو «خصم مباشر»؛ فإن 51% من الهنود يرون أنها «حليف»، بينما 44% من الصينيين، و55% من الأتراك، يعتقدون أن بوتين، «شريك ضروري» لبلدانهم. وتماشيا مع هذه الإحصاءات، تتناقض تصورات القوة الروسية الحالية بين الدول الغربية وغير الغربية. وفي حين يعتقد أكثر من 40% من المستطلعة آراؤهم في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، أن روسيا الآن أضعف بكثير مما كانت عليه قبل فبراير2022؛ يعتقد أكثر من 60% من الهنود، وحوالي 40% من الصينيين والأتراك، أنها أقوى الآن، مما كانت عليه. وفي الشرق الأوسط، قللت «سينزيا بيانكو»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، من الاهتمام بالسلاح الروسي، وأرجعت ذلك إلى «نقص جودته»، و«انخفاض مستويات صناعته»، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى خفض مبيعاته المحتملة إلى المنطقة خلال السنوات القادمة، علماً بأن هذا الخفض لن يكون له أي صلة بالتعاطف مع الروايات المحيطة بقضية الحرب أو حلها. وبالنسبة إلى ردود الفعل الشرق أوسطية حيال الحرب بشكل عام، أشار المحللون إلى حياد دول الخليج إزاءها ومحاولاتها الحفاظ على علاقاتها مع «موسكو»، من دون تأثر، لاسيما فيما يتعلق بمجال الطاقة. ولاحظ «كريستيان أولريشسن»، من «جامعة رايس»، أنه منذ بدء العملية العسكرية، كان من الواضح أن دول الخليج، «لن تنحاز إلى أي طرف أو تتورط في دائرة منافسة القوى العظمى». وأوضح «إميل حكيم»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، أنه بعد فترة قصيرة أصبح واضحًا لـ«واشنطن»، «أنه لا توجد القناعات التي يمكن أن تغير مواقف وجهات نظر الخليج»، التي ترى أن «الحياد هو أفضل مسار للعمل.» ومع إشارة «حكيم»، إلى كيفية استفادة دول الخليج -لاسيما السعودية، والإمارات، وقطر- من الحرب اقتصاديًا وسياسيًا، خاصة مع ارتفاع أسعار الصادرات النفطية وأرباحها خلال عام 2022، في ظل سعي الدول الأوروبية لإيجاد بدائل لمصادر الطاقة الروسية؛ خلصت «بيانكو»، إلى أنه لا يزال «واضحًا» لهذه الدول أن «الانحياز إلى طرف دون الآخر، لن يصب في مصلحتهم»، خاصة وأنهم وصلوا أيضًا إلى درجة الاعتزاز بتبني «فكر استراتيجي إقليمي مستقل»، والنفوذ الدولي الأوسع نطاقًا الذي اكتسبته منذ اندلاع الحرب. واستمرارًا لهذه الحجة، أشارت تقارير لشبكة «سي إن إن»، عن وجود كل من شركات الدفاع الغربية والروسية في معرض الدفاع الدولي «آيدكس فبراير2023» في أبو ظبي، باعتباره «دليلاً إضافيًا»، على «الحياد الواضح»، لدول الشرق الأوسط تجاه الحرب الأوكرانية، فيما رأى «أولريشسن»، أن «الولايات المتحدة»، قد «فشلت» خلال العام الماضي في إقناع شركائها الإقليميين بفك الارتباط مع روسيا. وأشار «حكيم»، إلى أن حياد دول الخليج، «ربما يعود تحديدًا إلى تضاؤل ثقتهم في واشنطن أكثر من انجذابهم إلى موسكو». ومع تأكيد «حكيم»، أن رواية «بوتين»، حول «الهيمنة الغربية»، و«توسع الناتو»، كان لها صدى في جميع أنحاء العالم العربي، فضلا عن بقية دول آسيا وإفريقيا؛ ذهب «ليونارد»، و«جارتون»، و«كراستيف»، إلى تصور مفاده أن «الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا مدفوع في النهاية، بالرغبة في حماية مصالحهم، بدلاً من مجرد الدفاع عن دولة تتعرض للهجوم. وحول كيفية معالجة المعضلة المتمثلة في الهيمنة الغربية، اقترح المحللون أنه على القادة الغربيين معاملة «الهند، وتركيا، والبرازيل»، وغيرهم باعتبارها دولا ذات رؤى مستقلة، بدلاً من التعامل معها على أنها داعمة لمواقفها فقط، خاصة أنهم معًا لا يريدون تشكيل «كتلة ما جديدة في مسار الشؤون العالمية»، لكن لديهم مصالح متباينة أو متنافسة يجب أخذها في الاعتبار. وفي ضوء تحليل الديناميكيات الأوسع نطاقًا، أوضح المعلقون أن ردود الفعل العالمية تجاه الحرب، تؤكد تحولا شاملا في السياسة العالمية، نحو «نظام متعدد الأقطاب»، حيث أصبح يتم وضع المصالح الوطنية للدول في طليعة الاعتبارات الاستراتيجية. وأوضح «ليونارد»، أن «المفارقة» في تلك الحرب هي أنه بينما أصبح الغرب «أكثر اتحادًا»، فقد أصبح «أقل تأثيرًا في العالم». وفي جزء من هذه التحول، يرى «جارتون»، و«كراستيف»، أن «العديد من البلدان غير الغربية يعتقدون أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت»، وأنه بدلاً من أن يكون النظام العالمي الجديد «يتميز بالاستقطاب بين كتلتين بقيادة الولايات المتحدة والصين»، فإنه سيكون «عالم متعدد الأقطاب»، مع قوى وسطى، مثل دول الخليج، أكثر نفوذاً في الشؤون الجيوسياسية. وبالاتفاق مع هذه التقييمات، رأى «حكيم»، أن دول الخليج نفسها تعتقد أيضًا أن «ميزان القوى العالمي بدأ يتغير»، حيث أصبحت الدول الغربية «أقل قوة وازدهارًا»، وسط «حالتي الفوضى والإرهاق الداخلية»، خلال العام الأول من الحرب. وعلى الرغم من أن الدعم غير الغربي لأوكرانيا قد تم تسليط الضوء عليه من قبل المعلقين -لا سيما ما يتعلق بالصين والهند والشرق الأوسط وإفريقيا- يجب أيضا تأكيد أن الغالبية العظمى من دول العالم تستمر في معارضتها لتصرفات موسكو على المستوى الدبلوماسي، حتى لو لم يقدموا دعمًا ماليًا أو عسكريًا لكييف. وأوضح «وينتور»، كيف صوت 141 من أعضاء الجمعية العامة البالغ عددهم 193 عضوًا -بما في ذلك أغلبية جميع مجموعاتها الإقليمية - لإدانة موسكو بعد حربها بوقت قصير. ورداً على ضمها العديد من المقاطعات الأوكرانية، رفضت 143 دولة الأمر، مع دعم 5 دول فقط لها. وفي حين أشار إلى «تحذير» أوكرانيا من أن عدد الدول التي تدعمها، قد «ينخفض إلى 135»، فمن الواضح أن غالبية المجتمع الدولي لا تزال تدعمها في حربها الراهنة. على العموم، بعد مرور عام على الحرب الأوكرانية، لا تزال الآراء والتصورات والمواقف السياسية الدولية منقسمة على نطاق واسع حولها. وبينما من الوضح أن التحالف الغربي أصبح «أكثر تماسكًا» من خلال دعمه لكييف، إلا أن تلك الكتلة الموحدة «ليست بالضرورة أكثر تأثيرًا في السياسة العالمية، وهي مفارقة تتزامن مع التصورات عن «ظهور نظام عالمي لما بعد الغرب». ومع استمرار الدول غير الغربية رفض إدانة روسيا في الأمم المتحدة، فإن ذلك يعد «دليلا»، على أن «واشنطن» فشلت حتى الآن «في إقناع القوى العالمية الأخرى بمناهضة روسيا، وبناء إجماع عالمي ضدها. وقد أرجع المراقبون أسباب هذا الإخفاق، إلى التصورات المتعلقة بالمعايير الغربية المزدوجة، والمصالح الذاتية، والتركيز على حماية القيم الديمقراطية الخاصة التي لا تتوافق مع المعايير غير الغربية الأخرى بالضرورة».
مشاركة :