تشهد الصالونات الثقافية للمرأة السعودية حراكاً فكرياً واجتماعياً ونقدياً لافتاً للنظر في المملكة العربية السعودية، بدءًا من انطلاقتها التاريخية عام 1992م بدار صفية بن زقر الثقافية، وهي انطلاقة تمت في سياقات اجتماعية وفكرية مرتبطة بخصوصية المرأة السعودية والعوامل الاجتماعية والثقافية المحيطة بها في تلك الفترة التاريخية في المملكة العربية السعودية. استطاعت المرأة السعودية في تلك الفترة الزمنية المبكرة من تاريخ التغيير الحضاري والفكري في المملكة أن تؤسس صالونات ثقافية خاصة بها، رغم الظروف الصعبة التي تعيشها، وقلة الإمكانات والدعم الثقافي والفكري لحضورها بشكل مستقل في محافل خاصة بها وبشكل تطوعي غير رسمي. ونحن نعيش اليوم العصر الذهبي للتطور الحضاري والفكري والاجتماعي والاقتصادي للمملكة العربية السعودية، بقيادة سيدي ولي العهد -حفظه الله-، أتوقع أن تظهر تلك الصالونات بشكل أكثر تنظيماً، وبرعاية الدولة، ممثلة في وزارة الثقافة بهيئاتها المتنوعة. لم يكن من السهل تاريخياً وحضارياً في المملكة العربية السعودية في مرحلة سابقة أن تؤسس المرأة الصالون الخاص بها؛ في ظل التحفظات الاجتماعية التي تقيد حركة المرأة وحضورها في المشهد الاجتماعي بشكل عام والثقافي بشكل خاص، وعلى الرغم من ذلك استطاعت المرأة السعودية المثقفة أن تبحث عن هويتها الذاتية في مجتمع محافظ، وأن تثبت حضورها الفكري والحضاري المتوافق وطبيعة المجتمع السعودي -آنذاك-، ويمكن التأكيد على: - حداثة التاريخ الزمني لظهور الصالونات الثقافية النسائية في المملكة العربية السعودية (1992- 2019م). - مركزية تلك الصالونات المكانية، والتي انحصرت في أهم المدن السعودية. - هيمنة الجهود الفردية على نشأتها وعدم خضوعها لإشراف حكومي. المتتبع للصالونات الثقافية للمرأة السعودية يجد أنها تنوعت في مكان انطلاقتها، لكنها تشابهت في اتجاهاتها الموضوعاتية بشكل يتوافق وتركيبة المرأة السيكولوجية والاجتماعية، من حيث الأنواع، وجدنا: (دارة/ ملتقى/ صالون/ أحدية/ منتدى/ مدينيات)، تعددت الأسماء والدلالة واحدة؛ فبعض الأنواع تنسب لصاحبة المكان: (دار صفية بن زقر/ صالون الأميرة سلطانة السديري/ صالون سارة الثقافي)، وبعضها ينسب للزمان: (أحدية الملتقى النسائي/ صالون الأربعائيات لسارة الخثلان)، وبعضها ينسب للمدينة التي ظهر فيها الصالون: (صالون رواق بكة النسائي/ منتدى الأحساء/ صالون مدنيات). إذن: تعدد المصطلحات الدالة على التقاء مجموعة من السيدات المثقفات؛ للحديث حول القضايا الثقافية المشتركة بينهن، وهو تعدد يتوافق والاستعمال الدارج لكلمة (صالون)، كما جاء التعدد في صيغة الدلالة المنسوبة للصالون؛ لتبيان هويته أو مكانه أو زمانة، بشكل يعد من مظاهر الثراء اللغوي الدلالي لتلك الصالونات الثقافية النسائية في المملكة العربية السعودية. أما من حيث اتجاهات الصالونات الثقافية النسائية للمرأة السعودية، فيمكن القول إنها تعددت بشكل يعكس الثراء الثقافي للمرأة السعودية، من أبرز تلك الاتجاهات: - الاتجاه الفني، ونقصد به: الاهتمام بالفنون بشكل خاص في تلك الصالونات؛ كون صاحبة الصالون فنانة. - الاتجاه الاجتماعي، ونقصد به: الاهتمام بالقضايا الاجتماعية بشكل عام، والخاصة منها بالمرأة بشكل خاص. - الاتجاه الأدبي، ونقصد به الاهتمام بالأجناس الأدبية، ظهر في صالون سلطانة السديري الذي اهتم بالشعر بشكل خاص. - الاتجاه التوعوي، ونقصد به: التركيز على مفهوم التوعية بشكل عام. - الاتجاه الفلسفي، ونقصد به طرح ومناقشة القضايا الفلسفية.. إلا أنه ما زال شحيح الحضور. - الاتجاه الوطني، ونقصد به الاهتمام بتعزيز روح المواطنة في المملكة العربية السعودية. يظهر تحرر المرأة السعودية في صالوناتها الثقافية من الذات الأنثوية وسياقاتها المحدودة، فقد غامرت وخرجت من عباءة ذاتها؛ لتناقش موضوعات متنوعة بعيدة عن هويتها الجنسية التي ارتبطت بها في إنتاجها الإبداعي. - تعدد الأجيال للمرأة السعودية التي أنشأت صالوناتها الثقافية، بما يعكس حراكاً نسائياً سعودياً متعدد الأزمنة والأجيال والأمكنة. مما لاشك فيه أن تلك الصالونات الثقافية للمرأة السعودية، تعكس علاقتها بالواقع الاجتماعي والسيكولوجي، سواء أكانت صاحبة تلك الصالون، أم ضيفة تحضر للمشاركة بفكرها، ويظهر ذلك من خلال: 1 - البعد الاجتماعي. نعني به: تأثير المحيط الاجتماعي بالصالونات النسائية في المملكة العربية السعودية، ونحن أمام ظاهرة نسقية تجاوزت الأدبية لتشكل عالماً ثقافياً خاصاً بالمرأة، تناقش من خلاله كل الموضوعات الأدبية منها وغير الأدبية، لكن لا يمكن اعتبار تلك الصالونات ظاهرة أدبية بالمعنى العلمي، بل يمكن اعتبارها ظاهرة ثقافية تجاوزت المركزية الأدبية، ويظهر فيها: - الاهتمام بالبعد الاجتماعي، سواء أكان ذلك في الموضوعات المناقشة، أم في فلسفة خلق مجتمع نسائي مصغر يعرض ويناقش أبرز الموضوعات الاجتماعية. - اهتمام بالمرأة والطفل كعناصر رئيسة من مكونات المجتمع المدني. - الاهتمام بالمستجدات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع السعودي. - إشراك جميع الفئات الاجتماعية للمرأة السعودية، ولم تقتصر على النخب العلمية والمهنية. - استقطاب الشخصيات النسائية الهامة كعضوات شرف، بما يشكل رغبة الصالونات النسائية في المملكة العربية السعودية في تنوع المشاركات بحضورهن أو بصفاتهن الاعتبارية. - الثراء العلمي والمهني والفكري والاجتماعي، سواء أكان لصاحباته أم للمشاركات فيه، بما يشكل ثراء المجتمع النسائي السعودي في مستوياته العديدة. 2 - البعد النفسي. أعتقد أن المرأة بشكل عام تشعر بإهمال الثقافة لذاتها الإبداعية أو لمنجزاتها الثقافية، والصالونات الثقافية للمرأة السعودية تمثل في بعدها الثاني الجانب النفسي الذي يظهر في أبعاد عدة: - الرغبة في تحقيق الهوية النسائية الخاصة من خلال استحداث صالونات خاصة بالمرأة السعودية. - الرغبة في تأصيل مناطق المملكة بأبعادها الجغرافية والحضارية من منطلق ذاتي نسائي، يستشعر الآخر (الطفل- الرجل- المجتمع بأطيافه)، ويعبر عن قضاياه في صالونات مفتوحة؛ لذلك ظهر الاهتمام المناطقي بتلك الصالونات بالمملكة العربية السعودية (الرياض- جدة- مكة- المدينة المنورة- الأحساء- القطيف- الخرج- جازان)، وهو بعد عام وخاص في الوقت ذاته، تهتم من خلاله المرأة بهويتها المحلية المناطقية، ضمن المملكة العربية السعودية. - الرغبة في تخليد الهوية الفردية، ويظهر هذا في مسميات بعض الصالونات النسائية المرتبطة باسم صاحبة الصالون (صالون الأميرة سلطانة السديري- صالون سارة- صالون السهام). مما لاشك فيه أن الصالونات النسائية في المملكة العربية السعودية قد خضعت لنظرية التأثر والتأثير، يظهر ذلك في بروز فكرة الصالونات النسائية السعودية، والتي سبقت إليها معظم الدول العربية والغربية، غابت المرأة لتعود في القرن الحالي في المملكة العربية السعودية، وتستلم إعادة إحياء الصالونات الثقافية النسائية بهوية عربية، سعودية، إنسانية عامة. لذا يمكن القول إن فكرة الصالونات الثقافية النسائية في أصلها عربية المنشأ، ثم تأثرت المرأة الغربية بها، وأنشأت صالوناتها الخاصة، وبالتالي فنظرية التأثر والتأثير منبعها عربي في الصالونات الثقافية النسائية، تأثرت بها المرأة الغربية، وأنشأت لذاتها صالونات مشابهة في أوروبا ارتبطت تلك الصالونات بمنجزات ثقافية ذات علاقة مباشرة بالواقع الحضاري للمملكة العربية السعودية، وبجهود فردية، سواء أكانت مادية أم تنظيمية، وبالتالي شكلت لذاتها هوية ثقافية بعيدة عن أروقة الجامعات بطابعها الأكاديمي، ويمكن استعراض أهم منجزات الصالونات الثقافية للمرأة السعودية، وعلاقتها بالواقع الحضاري من خلال: - تشكيل صالونات ثقافية نسائية بدعم فردي دون الاعتماد على مؤسسات الدولة. - استقطاب طبقات نسائية عدة (الأكاديميات- الأديبات- الفنانات- الطبيبات- الأميرات)، بما يشكل تنوعاً بشرياً نسائياً، يعكس ثراء وتنوع المجتمع السعودي علمياً ومهنياً. - تناولت المرأة السعودية في صالوناتها موضوعات عدة، ولم تقتصر على الموضوعات الخاصة بهويتها الأنثوية، بما يتناقض مع الحركة النسوية في أوروبا؛ التي نادت بالبحث عن خصائص كتابة المرأة، ورأت أنها مهمشة في النقد بشكل عام، واهتمت بكل ما يتعلق بالمرأة أثناء ثورتها الجنسوية ضد الآخر، بينما في المملكة العربية السعودية لم تشعر المرأة بذلك التهميش، وهي حفيدة سكينة بنت الحسين وولادة بنت المستكفي، بل استمرت في إحياء ارثها التاريخي بمشاركة الرجل في شؤون الحياة كافة بعزة وأنفة. - يعكس التنوع الجغرافي لصالونات المرأة السعودية الثراء الحضاري للمملكة العربية السعودية بمناطقها الخمس، والذي ظهرت في معظمه تلك الصالونات، وهو أمر يدعم التعدد الجغرافي المناطقي للمملكة والثراء الحضاري لأهلها. - شكلت تلك الصالونات جسراً فكرياً وثقافياً بين الأجيال المتعاقبة، وبالتالي ساهمت في إثراء المشهد الثقافي للمرأة السعودية. آفاق استشرافية لمستقبل الصالونات الثقافية للمرأة السعودية في المملكة العربية السعودية، في ظل الانفتاح الحضاري والثقافي الذي تعيشه المملكة أتوقع الآتي: - إنشاء هيئة خاصة بالصالونات الثقافية للمرأة السعودية تحت مظلة وزارة الثقافة. - تقسيم الصالونات الثقافية النسائية في المملكة العربية السعودية لخمس جهات (المنطقة الغربية- الجنوبية- الشمالية- الشرقية- الوسطى) تحت قيادة مركزية تعنى بتلك الصالونات مادياً ومعنوياً. - تفعيل مشاركة الصالونات النسائية الثقافية في المملكة العربية السعودية بعقد شراكات استراتيجية مع الجامعات السعودية، وبعض وزارات الدولة المعنية؛ بهدف الانفتاح على المجتمع السعودي بكل أطيافه. - تحديد آلية لإنشاء الصالونات الثقافية النسائية السعودية برئاسة فخرية من سيدات تلك الصالونات، وبعضوية من سيدات المجتمع في كل منطقة من مناطق المملكة. - فتح أوجه التعاون بين الصالونات النسائية الثقافية السعودية وبين مثيلاتها في العالم العربي والغربي. ** ** - أستاذ النقد والفلسفة، جامعة الملك سعود.
مشاركة :