تتمكن الكاتبة التركية أليف شافاك التي يقول عنها الأتراك إنها روح تركيا الجديدة والتغيير الذي سيجعل العالم ينظر إليهم بشكل مختلف، من إدهاش القراء بأعمالها المبدعة، لتأتي بعد سبع روايات وترفع حجم الدهشة بكتابها الجديد حليب أسود. فبعد لقيطة اسطنبول وقواعد العشق الأربعون والمعلم واليتيم وغيرها، تفاجئ الجميع بالغوص في قناة أخرى، فتأخذنا في رحلة أكثر عمقاً توثقها في حليب أسود عن تجربتها الأنثوية، التي أغرقتها في معاناة حمل وولادة، وتوقف إجباري لما يقارب السنة عن الكتابة. وبأسلوبها السهل المسترسل، تحاور أليف العلاقة بينها ككاتبة، وبين طبيعتها الأنثوية، فهي لم تكن قادرة على وأد مشاعر الأمومة انتصاراً لموهبتها الأدبية، وكانت تجربة تفجيرية لدفق من مشاعر لم تتوقعها أبداً. كتبت أليف بحليب قلمها الأسود الذي شبهته بحليب الرضاعة، رغم اختلاف الألوان، وصفاً ذكياً لمعاناة النساء من اكتئاب ما بعد الولادة، وروت مواجهتها الصعبة مع هذا الاكتئاب لأكثر من عشرة أشهر، وكيف كاد يدمرها ككاتبة. ولم تقدم بحكايتها الفائدة للنساء والقراء فقط، بل أسالت حبر قلمها الأسود كما سال حليب أمومتها الأبيض، وناقشت تجارب بعض الكاتبات اللواتي عشن مواجهات صعبة مع مشاعر الأمومة وشغف الكتابة. وتذكر أليف النساء برغبتهن في تجربة الأمومة التي اعتبرها البعض تدميراً للموهبة، وكيف حولتها إلى حافز كتبت عنه في مقدمة كتابها قائلة كتبت هذا الكتاب لكي تكون تلك الحالة نسياً منسياً، كما لو أنك تكتب على الماء. وبقوة رواياتها، وإن اختلف نمطها، جاءت هذه السيرة الذاتية التي تفردت أليف فيها بكتاب يجمع بين أدب وعلم، مفسرة للقراء معنى اكتئاب ما بعد الولادة، ومقدمة للنساء أملاً بحياة أكثر إبداعاً رغم مسؤوليات الأمومة الهائلة. ويهتم كتاب أليف ليس فقط بمعنى أن تكون المبدعة امرأة في مجتمع شرقي، ووصف لمعاناة النساء من الكاتبات الشهيرات، من أمثال فيرجينيا ولف وسيلفيا بلاث وأداليت أغاوغلو وأناييس نين، وغيرهن، ومعاناة بعض زوجات الكتاب مثل صوفيا زوجة ليو تولستوي، ولكنه يسمعنا كذلك أصواتاً داخلية لست نساء صغيرات يتحدثن في أعماقها، وكلهن عشن معها في حياتها قبل زواجها وأثناء حملها وبعده، فتشرح من خلالهن هذه التجربة الخصبة، وتصف أدق المشاعر بذكاء. وكأن أليف بهذا الكتاب تقدم لكل النساء هدية قيّمة من خلال حياتها، وتلامس المشاعر والأفكار من دون التخلي عن أهمية التجربة الواقعية التي عاشتها. ولأن البعض لا يدركون مرارة الاكتئاب الذي تعيشه امرأة بعد قطف حلاوة الأمومة، فإن أليف أعلمت الجميع بإبداع حليب أسود يضاف إلى إبداعاتها الأخرى. basema.younes@gmail.com
مشاركة :