الخلُق بضم اللام وسكونها هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها(1). ولهما أوصاف وذلك أن الإنسان مركب من جسد ونفس فالجسد مدرك بالبصر، والنفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحدة منها هيئة وصورة إما جميلة وإما قبيحة. والنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرًا من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله سبحانه وتعالى أمره فقال: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي (ص: 71-72)(2). والثواب والعقاب يتعلَّقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثرَ مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا تكرَّرت الأحاديث في مَدْح حُسْن الخُلُق(3). وبهذا يتضح للقارئ الكريم أن أحسن الخلق هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الإرادية الاختيارية من حسنة وسيئة، وجميلة وقبيحة، وهي قابلة بطبعها لتأثير التربية الحسنة والسيئة فيها، فإذا ربت هذه الهيئة على إيثار الفضيلة والحق، وحب المعروف، والرغبة في الخير، وروضت على حب الجميل، وكراهية القبيح، وأصبح ذلك طبعًا لها تصدر عنها الأفعال الجميلة بسهولة، ودون تكلف قيل فيه: خلق حسن. كما أنها إذا أهملت فلم تهذب التهذيب اللائق بها ولم يُعنَ بتنمية عناصر الخير الكامنة فيها، أو ربيت تربية سيئة حتى أصبح القبيح محبوبًا لها والجميل مكروهًا عندها، وصارت الرذائل والنقائص من الأقوال والأفعال تصدر عنها بدون تكلف، ويقال فيها خلق سيء..» (4). ومن هنا نوه الإسلام بالخلق الحسن ودعا إلى تربية المسلم وتنمية الأدلة في نفسه واختبر إيمان العبد بفضائل نفسه وإسلامه بالخلق الحسن. ثم اعلم أيها القاري الكريم إنه في استطاعة كل إنسان أن يهذب أخلاقه وذلك بالرياضة وتحمل النفس على ما يجلب لها الخلق الحسن. وقد يقال: إن الأخلاق لا يتصور تغييرها، كما لا يتصور تغيير صورة الظاهر. والجواب: أنه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، وكيف تنكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأكل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد، إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستصعبة. المطلوب هو رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، وأما قمعها بالكلية فلا، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة، ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه. وقد قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ (آل عمران: 134) ولم يقل: الفاقدين الغيظ فالمطلوب في هذا كله الاعتدال(5). وقد تحصل الأخلاق الحسنة بكامل الفطرة منحة من الخالق سبحانه وتعالى كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم). وتارة تكتب الأخلاق الحسنة بجهاد الأنفس وحملها على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجواد من البذل ليصير ذلك طبعًا له، وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة، فإن للعادة أثرًا في ذلك، إلا أنه لا ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أو ثلاثة، وإنما يؤثر مع الدوام، كما لا يطلب في النمو علو القامة في يومين أو ثلاثة، وللدوام تأثير عظيم(6). فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت. (1) ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص 881)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/86). (2) مختصر منهاج القاصدين 1/ 152 . (3) لسان العرب لابن منظور (10/ 86). (4) منهاج المسلم ص169 لأبي بكر جابر الجزائري. (5) مختصر منهاج القاصدين 1/ 152 -153. (6) مختصر منهاج القاصدين 1/ 153.
مشاركة :