مرّ ذات يوم أبو العلا المعرّي برجلٍ يفتت (يقطع) حجارة من إحدى الأطلال القديمة (سياث)، وللمعرّي شوقٌ قديم يتعلّق بالأطلال والصخور القديمة التي تتكون منها الأطلال بالوقوف عليها والدفاع عنها، فقال: مررتُ برَبعٍ من سياث فراعني به زجَلُ الأحجار تحتَ المعاولِ أَمُتلفَها شُلَّتْ يَمينُك خَلِّها لمعتبرٍ أو زائر أو مُسائلِ منازلُ قومٍ حدثتنا حديثَهم فلم أرَ أحلى من حديث المنازل وقد استعرت جزءاً من بيت أبي العلا المعرّي وهو (فلم أرَ أحلى من حديث المنازل) واخترته مرتبطاً بالدكتور عبد الرحمن بن محمد الطيب الأنصاري، وقد أخذ أبو العلا المعرّي كلمة (منازل) من شاعره المفضل أبي الطيب المتنبي الذي سبقه بأكثر من مائة عام، وأقول شاعره المفضّل؛ لأنه شرح ديوان المتنبي وسمّاه المعجز، وقد أورد المتنبي كلمة منازل في قوله: لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي القُلُوبِ مَنَازِلُ أَقَفَرْتِ أنْتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَوَاهِلُ ومنازل في شعر المعرّي تعني الآثار والآطام القديمة بما في ذلك الصخور والبقايا الحجرية من منازل قديمة و كذا الحضارات السابقة، وهذا مجال رحب للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الأنصاري الذي توفي يوم الاثنين بمدينة الرياض بعد معاناة مع المرض، والموت حقّ لا مراء فيه، فلكلّ أجلٍ كتاب، لكن وفاة أناس قد يفجع الآخرين، إما لعلمه أو لأخلاقه أو لخدمته المجتمع ، وقد اجتمع كلّ ذلك في الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الأنصاري ، وقد انتشر نبأ وفاته في كافة أنحاء الوطن الغالي، بل وبين المؤرخين والعلماء والأدباء بمنزلة الدكتور الأنصاري بينهم، كيف لا، وهو قامة علمية وقدرة وطنية ورجل مبادرات وأحد أبرز رواد علم الآثار، له جهود ملموسة في إبراز أهمية الآثار والتراث الوطني لدى الأجيال الحالية والقادمة، كما له إسهام جليل في إبراز تراث الوطن الغالي في المحافل الدولية. ولد المذكور في المدينة المنورة عام 1935م، ونشأ وترعرع في أزقة طيبة الطيبة وشوارعها، أتم دراسته الثانوية فيها، ثم انتقل إلى مصر ليحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية من جامعة القاهرة عام 1960م، ثم ابتعث بعد ذلك إلى جامعة ليدز في المملكة المتحدة للدراسة حيث حصل منها على درجة الدكتوراه في الفلسفة من قسم الدراسات السامية في العام 1966م. أنشأ جمعية التاريخ والآثار في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الملك سعود في الرياض في 1966م. واختير أول عميد سعودي للكلية في 1971م ثم أشرف على تأسيس فرع الآثار في قسم التاريخ. يعتبر الراحل من أوائل علماء الآثار والمؤرخين السعوديين، حيث أسهم في تطوير الدراسات الأثرية في جامعة الملك سعود، وأسّس أول قسم أكاديمي للآثار والمتاحف بها. كما اكتشف الموقع الأثري بقرية الفاو جنوب الجزيرة العربية، وأشرف على أعمال التنقيب فيه لأكثر من عقدين، وكان عضواً بمجلس الشورى في دورتيه الأولى والثانية. شارك المذكور في عشرات المشاركات الدولية واختير كعضو في الهيئة الدولية لكتابة تاريخ الإنسانية التابع لمنظمة اليونسكو، وعمل في تنقيبات آثارية في فلسطين وإيطاليا، وله نحو 14 مؤلفاً تناولت الجوانب التاريخية والأثرية في الجزيرة العربية، وثق من خلالها طرق التجارة القديمة والمدن والقرى التاريخية التي تمر من خلالها. ونظراً لجهوده العلمية المتميزة حيث بذل دوراً كبيراً ورائداً طوال تاريخه العلمي والمهني في استكشاف الكثير من المواقع الأثرية، وإبرازها للعالم كعمق حضاري، فقد أعطي له العديد من الأوسمة والجوائز، ومنها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وجائزة مؤسسة التقدم العلمي الكويتية، ووشاح الثقافة والفنون، وميدالية 22 مايو من اليمن، وجائزة الملك سلمان للريادة في تاريخ الجزيرة العربية، ودرعي شوامخ المؤرخين العرب والآثاريين العرب من القاهرة، ووسام الملك خالد من الدرجة الأولى. واعترافاً لخدماته الجبارة فقد نعى وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان حيث قال: «سيبقى اسمه خالداً في صفحات التاريخ السعودي، مؤرخاً ومكتشفاً وعالماً». وللكاتب علاقة خاصة مع الأستاذ الدكتور أستاذ الأجيال في علم الآثار وتطبيقاتها منذ عدة عقود، وهو معروف بعلمه وخلقه الفاضل، حيث أثنى عليّ في ملتقى العقيق الثقافي في دورته الثالثة لعام 1430هـ فقد قال: «إن أفضل من كتب في الآثار الدكتور تنيضب الفايدي، حيث يقف عليها مكرراً قوله (على قدميه)، وذلك أمام الحاضرين في الملتقى». أدعو الله أن يتغمد الفقيد بالرحمة وأن يلهم ذويه الصبر.
مشاركة :