لا تكون الكتابة عن الطبيبة الشاعرة فتحية السعودي، كتابة دقيقة لو توقفت على جانب من حياتها يتمثل في كتاباتها ذات الطبيعة الشعرية، إذ لا بد من تناول حالتها وحياتها، في سياق تداخل كتاباتها مع شؤونها وشجونها كلّها. فقد كانت الراحلة تجمع العلم والأدب والفكر والنشاط الإنسانيّ في إطار قلّ نظيره، الأمر الذي يجعل من «قراءة» تجربتها أمرا ليس يسيرا، وإن كان محبّباً ومحفّزاً لقراءة شاملة. فمنذ عرفتها في اللقاء الأول، في بيتها في جبل اللويبدة/ عمّان، كانت فتحية تبدو شخصية ذات «كاريزما» محببة، تجمع الحياة والقلق والأسئلة، والمحبة أيضاً. في إهداء كتابها «أطفال وأنبياء، رحلة شعرية في حياة الأنبياء: إبراهيم، موسى، عيسى، محمد»، نقرأ هذه العبارات «إلى أبي.. أوّل من علّمني معنى الإيمان والأمل. وإلى مدينة القدس التي ألهمتني منذ الطفولة». فنكتشف بعض ما يؤسّس شخصية هذه المبدعة، في علاقتها مع الأب النحّات كما يبدو في كتابها هذا، من جهة، وعلاقتها مع العالم من خلال القدس، من جهة الروح كما يبدو لنا. ولعلّ في العودة إلى هذا الكتاب ما يُفصح عن روحها وعوالمها. جمعت الشاعرة والطبيبة الأردنية، الراحلة أخيراً، فتحية السعودي خلال حياتها القصيرة نسبيّاً (66 عاما فقط)، اهتمامات وهموماً ومهمات عدة، متداخلة على نحو غير معهود كثيراً، خصوصاً في ما يتعلّق بحياة امرأة عربية عاشت الغربة والحنين في صُوَر شديدة المأسويّة، انتهت برحيلها غريبة في وسط (بريطاني) استطاعت التعايش معه، وقدّم لها التقدير الذي تستحق، والبيئة الملائمة لروحها. قد تكون الناقدة خالدة سعيد، لخّصت رحلة هذه الشاعرة وتجربتها، وذلك في كلمتها «بيان الصمت»، في تقديم كتاب السعودي «بنت النهر»، في أنّ روحها «روح ترقص مثل نسر يُحتضَر»، وأنّ في نصوصها «انتماء إلى الغربة وارتماء في النسيان»، وقولها إنّ كتابتها فيها «طرق متعددة لحنان متجدد»، فما قالته الناقدة هو اختزال رفيق وحميم لتجربة هذه الشاعرة ذات الأبعاد المتعددة، خصوصاً لجهة انتمائها المتأخر إلى الشعر بوصفه أداة من أدوات تعبيرها عن ذاتها. وعلى نحو يجمع روحها الشرقية والغربية معاً، يقول الروائي والناقد البريطاني جون برج، في تقديمه كتابها «أطفال وأنبياء»، إن لغتها الشعرية «هي إنكليزية سلسة ومعطرة بالشرق، بما تحتويه من إيقاع متناغم واستخدام غير متوقع في التراكيب وكذلك الأسماء والصفات. فأنت تشعر كأنك تبحر فوق بحر ما، لتنقلك فجأة فوق أمواج بحر آخر. وهذا ما استحوذ عليّ». وبعيداً من حياتها الشخصيّة، التي تعرّفتُ إلى جانب منها في مطلع التسعينات من القرن الماضي، أعتبر أن هذه ملامح من شخصية الشاعرة التي رحلت يوم الخميس الماضي، تاركة وراءها روحها الموزّعة بين عوالم عدة، في تجربة عبّرت عنها في شمولها بين الطب بما هو حالة إنسانية، وبين الشعر والأدب بما هو محاولة للتعبير عن هذه الحالة. وأتوقف تحديداً عند تقمّصها «أرواحَ» أربعة من الأنبياء، وجعلت منهم نماذج تأخذ من كل واحد منهم شيئاً من روحه. هنا، في كتابها هذا تحديداً، يمكننا الوقوف على روح غريبة ومغتربة عن العالم، لكنها شديدة العشق له. يبدأ التقمّص من صورة إبراهيم الضائع بين هاجر وسارة، وبين إسماعيل وإسحاق، في رؤية خاصة ربما لما هو عليه الحال بين العربيّ (إسماعيل وأمّه هاجر) واليهوديّ (إسحاق وأمّه سارة)، هذه الرؤية التي قد تنعكس على ما يجري اليوم في فلسطين، خصوصاً حين نتأمل في قولها على لسان إبراهيم «كم تمنيت أن يتآخيا الآن وإلى الأبد»، قاصداً الابنين، وربّما الشعبين، فهل كانت تنحو في هذا إلى التآخي بين اليهود والعرب، والمصالحة بين الشعبين «الآن»؟. وعلى هذا النحو، تأخذ شاعرتنا من كل نبيّ ما يُغني شخصيتها، وطفولتها تحديداً، بل هي تأخذنا إلى طفولتها وعلاقتها مع الأب «كان أبي يبدو مسحوراً في صقل حجارته/ في مزج الطين والماء/ في توليد الحجر»، ما يجعلنا نتأمل عميقاً في هذه التجربة، وأختم بهذا المقطع من الكلام على لسان سيّدنا المسيح، تقول: ما من ضحيّة بعد اليوم، صرختُ ما من دم يُهدر بعد اليوم، صرختُ ما من دم يُهدر بعد اليوم، فبكيتُ
مشاركة :