جيل الثمانينيات الميلادية وما تلاها؛ يدرك جيدًا المقصود بمصطلح (الحداثة)، لكنْ أي حداثة نقصد؟ أهي الحداثة بمفهومها الشامل؟ أم هي الحداثة بمفهومها الضيق الذي ظهرت به -محليًّا- مطلع الثمانينيات الميلادية؟.. الكلام هنا عن الحداثة كما عرفها المجتمع السعودي، وتزامنت مع بروز الصحوة التي كانت هي الوجه الآخر للسجالات الفكرية التي طغت على الساحة المحلية حينها. الحداثة مصطلح برَّاق، يغدو أكثر قبولًا؛ كون الحداثة عكس القدامة، وتعني النظر للأمام، وتسعى للتحديث في كل مجالات الحياة الفكرية والمادية؛ سعيًا للأفضل، وتساوقًا مع حركة الزمن ومقتضيات العصر. عندما كان التدافع بين الصحوة والحداثة حاصلًا، كانت كل كتلة تتسلح بمزيد من (المبادئ والقيم) المثالية، وترفع راية الدفاع عنها؛ حتى تستميل إليها أكبر عدد من الحشد والأتباع، وهنا لن أتكلم عن المبادئ التي كانت تتمسك بها الصحوة؛ كون تلك المبادئ أُشبِعت نقدًا وتشريحًا، وكون الصحوة كتلة تاريخية مرَّتْ ثم توارت اليوم، إنما الكلام هنا عن الحداثة التي كانت تتمثل موقف (المظلومية)، وكانت تتحين الفرصة التي تخلو لها فيها الساحة لتبسط قيمَها الفاضلة بكل هدوء ووضوح على أرض الواقع. لكن حينما نعلم أن حداثة الثمانينيات الميلادية لم تكن حداثة بالمعنى الشامل للحداثة؛ فحداثيو الثمانينيات كما يذكر علي الشدوي في كتابه «الحداثة والمجتمع السعودي» كانوا (يحملون مشروع الدفاع عن أعمال أدبية، وتبعًا لذلك أهملوا الحداثة بمفهومها الشامل)، حينما نعلم ذلك ندرك أن القيم التي كانت تدَّعيها الحداثة قيم لا تأخذ صفة الثبات والديمومة والشمولية؛ كونها قيمًا طارئة استُحضرت -ظرفيًّا- لمواجهة مد الصحوة التي لولاها ربما لم نكن لنسمع عن الحداثة ولا عن قيمها، ولذلك يذكر عبدالله الغذامي في إحدى توريقاته أن (الصحوة خدمت الحداثة عندما اتخذتها خصمًا لها)، ما يعني أن وجود الصحوة كان ضرورة لاستمرارية الحداثة، وكان سببًا لتضخم تلك القيم التي دعت لها الحداثة. لعل من أظهر تلك القيم التي دعت إليها الحداثة دعوتها للتسامح مع الآخر، وتركيزها على حسن الظن، وتأكيدها على القبول بالرأي والرأي الآخر، ومنابذتها للتُّهم والتخوين، ودعوتها لتقبل النقد، وتشديدها على أن النقد حينما يُركِّز على المنتَج الإبداعي دون المساس بصاحب المنتَج، فذاك نقد هادف ومطلوب؛ ولذلك تراها دائمًا تستحضر في هذا الموقف نظرية (رولان بارت) التي دعا فيها إلى (موت المؤلِّف)، ما يعني أن النقد موجه للمنتَج وليس لشخص المنتِج، ولذلك يغدو -وهذا ما تفترضه النظرية- نقدًا مقبولًا لا يضيق به المنقود، وغيرها من القيم المثالية التي كانت تدعو لها الحداثة في ظل مد الصحوة العاتي حينها، وما ألحقه من أضرار ببعض رموز الحداثة. اليوم وبعد أن خلا الجو للحداثة رأيناها تنقلب على قيمها، لا في مواجهة خصمها السابق (الصحوة)، وإنما في مواجهة (داخلية-داخلية)، أطرافها بعض رموز الحداثة أنفسهم، حدثَ هذا حينما افتقدت الحداثة لخصم تتسلح ضده بحزمة من القيم، ولذلك كان هذا الارتداد العكسي والتشاحن وطرح تلك القيم المثالية جانبا، وهذا أمر نراه يتكرر خصوصا حينما يغيب الخصم؛ فقد رأينا كيف أن من ذهب -بحجة الجهاد- لأفغانستان عندما غاب (انهزم) الخصم الذي هو (السوفيت) تخلوا عن مبادئهم وارتدُّوا على أنفسهم وأوطانهم، وهذا هو حال الحداثة اليوم عندما ارتدَّت على نفسها عبر (بعض) رموزها ومنظريها، وتخلت عن بعض قيمها وانقلبت عليها وانفلتت ألسنُ بعض رموزها فيما بينهم بعبارات لا تليق بما كانت تدّعيه الحداثة. وفوق هذا فالحداثة اليوم ممثلة في (بعض) رموزها لم تعد تتقبل النقد ولا الحوار حتى من داخلها، وربما لو أن الساحة خلت للصحوة لرأينا الحال نفسها التي عليها الحداثة اليوم. الشاهد في المسألة أن غياب الخصم يجعل الكتلة -أي كتلة- ترتد على نفسها وتنقلب على قيمها، وهو ما يُفقدها الكثير من قيمتها، ويضعف تأثيرها ويشكك في منهجها.
مشاركة :