بينما اجتاحت عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا العالم في 2020، خرج "برنارد لوني" الرئيس التنفيذي لشركة "بي.بي" بتصريح أثار الدهشة حين قال إنه يعتقد أن الطلب على النفط قد لا يعود أبدا إلى ذروته قبل الوباء. لكن في الآونة الأخيرة، تراجع "لوني" فيما يبدو عن رؤيته السابقة، فبعد الإعلان عن خطط طموحة لخفض الانبعاثات وتقليص إنتاجها من النفط والغاز، تقوم "بي.بي"، أحد أكبر منتجي النفط في العالم، بضخ المزيد من الأموال في الوقود الأحفوري. استهلاك قياسي ويتجه استهلاك النفط إلى مستوى قياسي هذا العام وفقا لوكالة الطاقة الدولية التي تقدم المشورة للاقتصادات الكبرى في قطاع الطاقة. كانت الحرب الروسية الأوكرانية أوقدت شرارة ارتفاع في أسعار النفط الخام والوقود، ما أدى إلى أن يحقق القطاع أرباحا قياسية، ما دفع الحكومة الأمريكية وغيرها إلى اتهام شركات النفط الكبرى بالتربح من الحرب، ودفع بريطانيا وبعض الحكومات لفرض ضرائب غير متوقعة على شركات الطاقة. لكن بينما تواصل الولايات المتحدة وعديد من الحكومات الغربية دعوة الشركات النفطية لضخ مزيد من الخام في السوق يقول المسؤولون التنفيذيون إن من واجبهم تعظيم العوائد لمواصلة الاستثمار في صناعة تواجه مستقبلا يتسم بالضبابية على المدى الطويل. في الوقت ذاته فإن المعروض، الذي تضرر جراء الحرب الروسية الأوكرانية وضعف الاستثمارات في الإنتاج وتباطؤ نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، يبدو غير قادر على مواكبة الطلب. وفي ظل شح الإمدادات، فإن ارتفاع الطلب تسبب في أن تتوقع شركات من "جولدمان ساكس" إلى مجموعة "فيتول" لتداول النفط ارتفاعا إلى مستويات تراوح بين 90 إلى 100 دولار للبرميل في وقت لاحق من العام. يقول المحللون أيضا إنه بحلول النصف الثاني من العام، ستواجه السوق نقصا في الإمدادات وأنه حتى في ظل تبني العالم لمصادر الطاقة النظيفة، فإن التعطش للنفط يصعب التخلص منه. وقال "سعد رحيم" كبير الخبراء الاقتصاديين لدى مجموعة "ترافيجورا" إنه يرى أن الكثيرون ربما يقللون من شأن الطلب ويبالغون في تقدير الإنتاج الأمريكي. الصين يشير الخبراء إلى الصين باعتبارها السبب الأول وراء عجز سوق النفط، إذ يفتح ثاني أكبر مستهلك في العالم للخام أبوابه على مصراعيها أمام تدفق الخام بعد أن أنهى سياساته الصارمة في مواجهة فيروس كورونا. وفي أعقاب تخلصها من سياسات الإغلاق الهادفة لمكافحة فيروس كورونا، ينتعش الاقتصاد الصيني، ما يعزز الطلب على النفط. وسجل التصنيع أكبر تحسن له منذ أكثر من عقد في فبراير، كما أن نشاط الخدمات آخذ في الارتفاع بينما تستقر سوق الإسكان. ويعني إعادة فتح الاقتصاد الصيني أن استهلاك الصين للخام بصدد الوصول لمستوى قياسي هذا العام. وسيصل الطلب اليومي لأعلى مستوى له على الإطلاق عند 16 مليون برميل يوميا بعد انكماشه في 2022 وفقا لمتوسط تقديرات 11 جهة استشارية تركز على الصين استطلعت "بلومبرج" آراءهم في وقت سابق من العام. يقول الخبراء إن الأمر لا يقتصر على الصين، فالهند ودول أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادي تستهلك مزيداً من النفط، ما يساعد على دفع الطلب العالمي إلى مستوى قياسي عند 101.9 مليون برميل يوميا هذا العام، وبما سيدفع السوق إلى تسجيل عجز بحلول النصف الثاني، وفقا لوكالة الطاقة الدولية. تتعافى أيضا الحركة الجوية، ما يعزز استخدام وقود الطائرات كما يتحسن الطلب على النفط الخام في الولايات المتحدة وأوروبا. وقال "كريستوفر بيك" عضو اللجنة التنفيذية لشركة "فيتول" إن "انتعاش السفر الدولي مع عودة الصين من الإغلاقات" سيكونان أحد المحركات التي ستدفع الطلب قدما، وأضاف "أعتقد أننا سنرى هذا التقدم خلال الأشهر القليلة المقبلة". لا تناسب بين العرض والطلب على الرغم من أن صادرات النفط الروسية المنقولة بحرا ظلت تظهر متانة على مدى الأشهر الماضية، إلا أن مراقبي السوق ما زالوا يشيرون إلى مؤشرات، حتى لو كانت ضئيلة على الاضطراب بعد أن حظر الاتحاد الأوروبي وأغلبية دول مجموعة السبع الكبرى واردات النفط والوقود الروسية المنقولة بحرا في أعقاب حرب أوكرانيا. وكشفت بيانات من مصادر بالقطاع وحسابات أجرتها "رويترز" أن صادرات روسيا من المنتجات النفطية المنقولة بحرا انخفضت بالفعل 10% في فبراير على أساس شهري، لتنزل إلى9.531 مليون طن من 11.871 مليون في يناير، بعد أن دخل حظر كامل للاتحاد الأوروبي على المنتجات النفطية لروسيا حيز النفاذ في الخامس من فبراير. تتعرض أيضا الشحنات الروسية لبقية دول العالم لضغوط، إذ تواجه الهند مثلا، وهي من بين أكبر مشتري النفط الروسي، لضغوط متزايدة من المصرفيين لإظهار أن شحناتها تلتزم بسقف 60 دولارا للبرميل والذي فرضته مجموعة السبع. يقول "مايك ويرث" الرئيس التنفيذي لشركة "شيفرون" الأمريكية إن فائض الطاقة الإنتاجية العالمي يتسم بالشح فيما من المستبعد أن يعوض نمو إمدادات النفط الصخري في الولايات المتحدة النقص إذا ارتفع الطلب في وقت لاحق من العام الجاري. وقال "ويرث" إنه مع اقتراب النصف الثاني من العام الجاري، نرى مخاطر على صعيد زيادة المعروض. 90 دولارا في النصف الثاني يرى الخبراء أنه مع تقليص روسيا لإمداداتها وزيادة استهلاك الصين من الخام، فإن سوق النفط ستسجل عجزا بين العرض والطلب، ما قد يرفع الأسعار فوق 90 دولارا للبرميل في النصف الثاني من 2023. وتوقع مسح أجرته رويترز شمل 49 خبيرا ومحللا اقتصاديا أن يبلغ متوسط سعر خام برنت 89.23 دولار للبرميل هذا العام متراجعا عن التوقعات البالغة 90.49 دولار في يناير. ومن المتوقع أن يبلغ متوسط سعر خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 83.94 دولار للبرميل في 2023. ويقول المحللون إن سعر خام برنت قد يشهد ارتفاعا فوق 90 دولارا للبرميل في النصف الثاني من العام بعد أن بلغ في المتوسط حوالي 85 دولارا في الربع الأول و88.60 دولار في الربع الثاني بسبب تباطؤ الطلب من مناطق استهلاك رئيسية في أوروبا والولايات المتحدة. وقال "فلوريال جروينبيرجر" كبير المحللين لدى "كبلر" للاستشارات في إشارة إلى العقوبات الدولية التي تهدف إلى وضع سقف لمبيعات النفط الروسي "تأثير سقف السعر لكل من النفط الخام والمنتجات أقل مما كان متوقعا في البداية بسبب نشوء صفقات بديلة". ويتوقع "جروينبيرجر" أن تتضرر الإمدادات الروسية بواقع 600 ألف برميل يوميا على أساس سنوي بسبب انخفاض الطلب وتراجع الصادرات على نحو طفيف. وأعلنت روسيا تقليص إنتاجها من الخام بمقدار 500 ألف برميل يوميا ومواصلة خفض صادراتها النفطية من موانئها الغربية بما يصل إلى 25 في المائة، حيث تستنزف العقوبات الغربية المتصاعدة إيراداتها. وستسعى ثاني أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم إلى إعادة توجيه شحناتها من الخام وكذلك المنتجات المكررة إلى دول مثل الصين والهند اللتين لم تفرضا عقوبات على موسكو جراء حربها مع أوكرانيا. وقال "روبرت ياوجر" المحلل الاستراتيجي لعقود الطاقة الآجلة في بنك ميزوهو "ستواصل الصين حصد المنتجات الروسية بسعر منخفض". وترى وكالة الطاقة الدولية أن الصين تشكل نحو نصف النمو البالغ مليوني برميل يوميا هذا العام للطلب العالمي على النفط، ما قد يتجاوز المعروض بعد النصف الأول ويدفع المنتجين إلى إعادة النظر في سياسات الإنتاج. ومع ذلك، يتوقع المحللون أن يلتزم تحالف أوبك+، الذي يضم روسيا ودول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، بسياسته للإنتاج في الوقت الحالي، مراهنين على سوق أكثر شحا وسط تركز أنظار التحالف على انتعاش إلى 100 دولار للبرميل. وقال "سوفرو ساركار" رئيس فريق الطاقة لدى "دي.بي.إس بنك" إن أوبك+ لن تكون في عجلة من أمرها لزيادة إنتاج النفط وربما تغير مسارها فحسب في أواخر عام 2023 إذا اتخذ الطلب مسارا صاعدا مفاجئا". جولدمان ساكس يتوقع جولدمان ساكس سيناريو مشابها لما تتوقعه رويترز. ويرى محللو البنك أن الارتفاع القوي في الطلب على الوقود في الصين وثبات المعروض من بقية المنتجين، سيدفع السوق صوب تسجيل عجز في الإمدادات في النصف الثاني من العام الجاري، ما قد يدفع أوبك للتراجع عن خفض الإنتاج في اجتماع يونيو. واتفقت أوبك+ في أكتوبر على خفض أهداف إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا حتى نهاية 2023. وقال البنك إنه يتوقع ارتفاع أسعار النفط تدريجيا إلى 100 دولار للبرميل بحلول ديسمبر، بافتراض أن أوبك ستعزز الإنتاج بمقدار مليون برميل يوميا في النصف الثاني. لكن إذا أبقت أوبك على سياستها الحالية، فمن المرجح أن يصل سعر خام برنت إلى 107 دولارات للبرميل في ديسمبر ويواصل الارتفاع بعد ذلك. ضبابية أمريكية المشهد في الولايات المتحدة أيضا يشي بالضبابية، ففي حين ترد مؤشرات على شح الإمدادات تشير بعض التقارير إلى تحسن نسبي قادم. تواجه شركات النفط الصخري صعوبات في ظل مكاسب أبطأ ومستثمرين أكثر تشددا. ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي إنتاج الولايات المتحدة من النفط بشكل طفيف هذا العام، بمقدار يقل عن 600 ألف برميل يوميا، مقارنة بقفزة بنحو مليوني برميل يوميا في 2018. في الوقت ذاته تشير بعض المؤشرات على التحسن، إذ ترى إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أنه من المتوقع ارتفاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي في أكبر سبعة مكامن للنفط الصخري في أبريل لأعلى مستوياته منذ ديسمبر 2019. وتظهر بيانات الإدارة الحكومية الأمريكية أنه من المتوقع أن يرتفع إنتاج النفط الصخري 68 ألف برميل يوميا، إلى 9.21 مليون برميل يوميا. ومن المتوقع أن يزيد إنتاج الخام في حوض برميان في تكساس ونيو ميكسيكو، وهو أكبر حوض للنفط الصخري في الولايات المتحدة، إلى 5.62 مليون برميل يوميا. وأظهرت البيانات أنه على الرغم من أن ذلك سيكون رقما قياسيا، إلا أنه من المتوقع ارتفاع إنتاج النفط من المنطقة بمقدار 26 ألف برميل يوميا، مقارنة بالشهر السابق وهي أقل زيادة منذ ديسمبر الماضي.
مشاركة :