«كل الأشياء التي جعلت العولمة النيوليبرالية التقليدية ممكنة: رأس المال الرخيص، والطاقة الرخيصة، والعمالة الرخيصة، كل هذه الأشياء تتفكك الآن.» هذا ما تقوله الكاتبة الأمريكية رنا فوروهار (Rana Foroohar) مؤلفة كتاب «العودة للوطن: الطريق إلى الازدهار في عالم ما بعد العولمة»، مفاده أن عصرًا جديدًا من النمو الاقتصادي المحلي سيعيد توحيد المكان والازدهار، ويضع نهاية لنصف القرن الأخير من العولمة المدفوعة من قبل الولايات المتحدة والصين والشركات متعددة الجنسيات.. موضحة أن العديد من الافتراضات والأفكار الرئيسية التي وجهت السياسة الاقتصادية العالمية لعقود من الزمن كانت تنغمس في إشكاليات عميقة تدريجيا.. فثمة تغييرات هائلة تحدث عبر المشهد الاقتصادي العالمي، كشفتها جائحة كورونا، والحرب الروسية في أوكرانيا، والمد المتصاعد للشعبوية.. توضح فوروهار أنه منذ بداية القرن الحادي والعشرين، أعلن توماس فريدمان في كتابه «العالم مسطح» أن العولمة هي النظام الاقتصادي الجديد؛ وخلال معظم النصف قرن الماضي تصرف صانعو السياسة في الولايات المتحدة كما لو كان العالم أرض مسطحة بلا مطبات وعرة.. وصاروا منغمسين في الضغط السائد للتفكير الاقتصادي الليبرالي الجديد. فما هي حجج هذا الفكر الاقتصادي الذي ساد العالم لنحو نصف قرن؟ هو الافتراض بأن حرية رأس المال والسلع والأشخاص ستذهب إلى الأماكن الأكثر إنتاجية للجميع ويستفيد الكل.. فإذا أوجدت الشركات فرص عمل في الخارج، حيث كان القيام بذلك أرخص، فسوف تتفوق فوائد المستهلك على خسائر العمالة المحلية. وإذا خفضت الحكومات الحواجز التجارية وأسواق رأس المال غير المنظمة، فإن الأموال ستتدفق إلى حيث تشتد الحاجة إليها ويربح الجميع. فروهار تعترض على تلك الافتراضات موضحة أن صانعي السياسات لم يأخذوا الجغرافيا في الحسبان، لأن اليد الخفية كانت تعمل في كل مكان.. بعبارة أخرى، المكان لا يهم في تقديرهم. حتى وقت قريب، اتبعت الإدارات الأمريكية من كلا الحزبين سياسات تستند إلى هذه الافتراضات الواسعة - تحرير التمويل العالمي، وإبرام صفقات تجارية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والترحيب بالصين في منظمة التجارة العالمية، وليس فقط السماح بل تشجيعه حيث يقوم المصنعون الأمريكيون بنقل جزء كبير من إنتاجهم إلى الخارج. لكن عهد العولمة كما عرفناه قد انتهى، كما تقول فوروهار، بينما صعود الأعمال المحلية والوطنية والإقليمية أصبحت رائجة. مع رفوف السوبر ماركت العارية ونقص إمدادات معدات الوقاية الشخصية، أدى وباء كورونا إلى تعافي هشاشة التجارة العالمية وسلاسل التوريد، وشكلت الجائحة نقطة انعطاف. أما ما أعقب ذلك من الحرب المأساوية في أوكرانيا فهو الفوضى السياسية والاقتصادية مما يؤكد على نقاط ضعف العولمة. اتضح أن العالم ليس مسطحًا بل أنه في الواقع مليء بالمطبات، على حد وصف فوروهار. هذا التشرذم كان قادمًا منذ عقود، كما تلاحظ فوروهار التي ترى إن فلسفتنا الاقتصادية النيوليبرالية المتمثلة في إعطاء الأولوية للكفاءة على المرونة والأرباح على الازدهار المحلي قد أنتجت عدم المساواة وتفاوتًا هائلاً في الدخل وانعدامًا للأمن الاقتصادي المستدام وانعدام الثقة في مؤسساتنا. هذه الفلسفة، التي كانت أساس نصف القرن الأخير من العولمة، قد استكملت مسارها وبلغت ذروتها ودخلت في مراحلها الأخيرة. إذا كانت العولمة الاقتصادية في طريقها للنهاية، فما هو القادم حسب فوروهار؟ إنه الاقتصاد القائم على المكان وموجة من الابتكارات التكنولوجية والتصنيع اللامركزي والمعاملات الرقمية إلى إنترنت الأشياء مما يجعل من الممكن إبقاء العمليات والاستثمار والثروة أقرب إلى الوطن، حيث يستكشف كتاب «العودة للوطن» كلاً من التحديات والإمكانيات في هذا العصر الجديد، ويبشر بمستقبل أكثر إنصافًا وازدهارًا.. وعود الاقتصاد إلى الوطن. تقدم فوروهار لمحات عن المستقبل، من بين ابتكارات عديدة: الزراعة العمودية والمزارع التي تنمو في حاويات الشحن؛ والمباني الصناعية والمنازل المستدامة التي تصممها طابعات ثلاثية الأبعاد تستخدمها شركات صغيرة ومتوسطة؛ وبرامج تعليمية ميسورة التكلفة توفر مسارات وظيفية للطلاب ومجموعات المهارات اللازمة للشركات الإقليمية؛ رجال الأعمال وصانعي السياسات الذين يحاربون احتكارات الشركات الكبرى.. موضحة لماذا لا يحتاج الاقتصاد العالمي إلى أن يكون لعبة الفائز يأخذ كل شيء. على الرغم من أن العوائق التي تحول دون تفكيك الترابط العالمي على النفط والحبوب والموارد الأخرى غير متطورة إلى حد ما، إلا أن فوروهار تشرح المسائل المالية والسياسية المعقدة وترسم ملامح حادة لمنظمي العمل المبدعين وقادة الأعمال وواضعي السياسات. ورغم أن ذلك يقدم تفاؤلا بالمستقبل إلا أن المؤلفة لديها موقف لا يبدو متسامحاً مع الصين وأقرب لموقف التعصب القومي، فالصين (ودول أخرى) في رأيها استخدمت التجارة الحرة بطرق تخدم مصالحها الذاتية، وتقويض شركائها التجاريين وتزعزع استقرار السياسات العالمية. من هنا تعتبر المؤلفة أن الزعم بأن العولمة تنتج مجتمعات حرة مجرد أسطورة.. فالعولمة أسفرت عن نقص في المعروض، وقوى عظمى معادية، واكتناز السلع الأساسية، وانهيار الشركات المحلية الصغيرة تحت وطأة سلاسل البيع بالتجزئة الضخمة. لذا، تدعو المؤلفة إلى عدد كبير من السياسات المصممة لتعزيز وحماية المصالح المحلية في الزراعة والصناعة والإسكان والتمويل..
مشاركة :