لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً أن نسمع خطاباً فاشياً وعنصرياً من وزير مالية حكومة «بطل التطبيع» و«السلام من أجل السلام» نتنياهو لقوله لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، فـ«الذين لا يحبون إسرائيل والمحيطون بها (يقصد العرب) هم من اخترع شعبا وهمياً ويطالبون بحقوق وهمية في أرض إسرائيل!». وكالعادة اكتفت بعض الأنظمة العربية ببيانات إدانة وشجب لا طعم لها ولا رائحة، ربما باستثناء الأردن، وتصويت مجلس النواب على توصية متواضعة جداً بطرد السفير الإسرائيلي، والمفاجأة قياساً إلى تردي الحالة العربية أتت من واشنطن، فقد رفضت إدارة بايدن استقبال «بطل التطبيع» وأصدرت بياناً شديد الاستنكار ورفضها إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وقد تكون نزوه من نزوات الإدارة الأميركية. هناك وجه آخر لهذا الخطاب لا بد من استثماره وتوجيهه خرج من داخل إسرائيل، وفاجأ مناصري ومؤيدي الحركة الصهيونية ومنهم الوزير الفذ «شموتريتش» رئيس حزب الصهيونية الدينية. الخطاب في مجمله نسف كامل للرواية التاريخية التقليدية التي يرددها غالبية المجتمع الإسرائيلي ويتبناها، يؤكد أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، «شلومو ساند» في كتابه الصادر بالعبرية ثم الإنكليزية عام 2009 على أسطورة اختراع الشعب اليهودي، وأنقل هنا ما جاء في رسالة وردتني عن خلاصة أهم ما جاء في الكتاب وأضفت إليها من بحث قمت به. * يقول «ساند» ليس هناك وثائق تاريخية تثبت طرد الرومان للشعب اليهودي في أي وقت من الأوقات، حيث إنه من المستحيل لوجيستيا في ذلك الوقت ترحيل مئات الآلاف من مكان لآخر. * اليهود المعاصرون لا ينحدرون من أصول اليهود القدامى الذين عاشوا في أرض إسرائيل القديمة، ولا يوجد ما يسمى «العرق» اليهودي، واليهود لا ينتسبون إلى منبع واحد، بالضبط مثل المسلمين والمسيحيين المعاصرين. * لم يتم ترحيل اليهود خارج البلاد على أيدي الرومان خلال القرن الثاني الميلادي، وأغلبهم ظل يعيش في البلاد حتى أزمنة الفتح الإسلامي «القرنان السابع والثامن الميلادي»، وقد تحول الكثير منهم إلى الإسلام، واستوعبتهم الأمة الإسلامية، مما يعني أن العديد من أسلاف فلسطينيي اليوم كانوا يهوداً. * يرى «ساند» أن أسطورة «الشتات» اليهودي بدأت مع عصور المسيحية الأولى، لجذب اليهود لديانة الجديدة. * ظهرت في ألمانيا مجموعة من المثقفين اليهود الذين تأثروا بالحماس المتقد للقومية الألمانية، وأخذوا على عاتقهم مهمة «اختراع» قومية يهودية. * ويرى «ساند» أن فكرة الوعد بعودة الأمة اليهودية إلى الأرض الموعودة، هي فكرة غريبة تماما على «اليهودية»، وهي لم تظهر إلا مع ميلاد «الصهيونية»، حيث تعامل اليهود من قبل مع الأراضي المقدسة كأماكن يتم تعظيمها، وليس من الضروري العيش في كنفها، تماماً مثلما يتعامل المسلمون مع أماكنهم المقدسة. * صاغ «ساند» أطروحته التي تقول: إن اليهود شكلوا دائماً جماعات دينية مهمة اتخذت لها موطئ قدم في مختلف مناطق العالم وليس حصراً على أرض فلسطين، ولكنها لم تشكل شعبا (ethnos) من أصل واحد وفريد تنقل من ثم عبر التشرد والنفي الدائمين في غرب آسيا وشمال إفريقيا وشرق أوروبا وجنوبها واستوطنوا إسبانيا. * ويضيف إنه في عام 1970 حصل تطور في علم الآثار تحت تأثير مدرسة الحوليات التاريخية في فرنسا وارتدى الطابع الاجتماعي للبحث التاريخي أهمية أكبر من الطابع السياسي ووصل هذا التحول إلى الجامعات الإسرائيلية، هكذا بدأت تناقضات الرسمية بالبروز، وهو ما يزعزع الأساطير المؤسسة ليس فقط لدولة إسرائيل بل للتاريخ اليهودي برمته. كان حدثاً جيداً أن تخرج تلك الأصوات الصهيونية الآن ومن حكومة «بطل السلام والتطبيع» كي يصحو البعض من غفلتهم، فالصدمة قد يكون مردودها إيجابياً إذا تمت الاستفادة منها!
مشاركة :