كانت الساعة الخامسة من فجر يوم السبت 3-1-1442هـ اللحظة الأخيرة لشقيقي الأكبر وحبيب قلبي ووالدي وصديقي عبد الكريم (أبو صالح) في هذه الدنيا، إذ توفي رحمه الله جراء إصابته بفيروس كورونا الذي جثم على صدره لمدة أسبوع كان فيها بالعناية المركزة بمستشفى الملك سلمان التخصصي بحائل إلى أن فارق الحياة. هاتفني رحمه الله قبل أن يغلق جواله للأبد، وحذرني من أن أتهاون مع هذا الفيروس الخطير، مذكراً لي بوجوب لبس الكمامة، والبعد عن التجمعات، وأخذ جميع الاحتياطات وقاية وحذراً، فقد رأى - كما يقول هو، وهو يتحدث عن حاله ولا يكاد يبين - الموت من شدة ماهو فيه من حال صعبة، قبل أن يغيب عن الإحساس عنوة حسب البروتوكول الطبي الصادر من قبل هيئة الصحة العالمي غير القابل لاجتهاد مجتهد، أو تدخل طبيب مختص. لم يكن حينها يدور في خلده رحمه الله ولا حتى خلدي أن هذه المكالمة ستكون حاملة لمسامعي كلمات أخي الأخيرة التي يبوح لي بها عمّا هو فيه من شدة وألم، ولم أكن اعتقد أن ما يفصله عن الرحيل عن هذه الدنيا إلا أيامٌ معدودة. بصدق حاولت كثيراً أن أنسى ذلك الوجه الضحوك الذي يقابلني في كل زاوية، وأكون برفقته في كل مناسبة سواء أكانت مناسبة فرح أو أنها عزاء وأحزان، حاولت جاداً أن أهرب من ملاحقة الذكريات التي جمعتني به ومعه منذ كنا صغاراً وحتى ساعة الفراق. والغريب أن كل هذه المحاولات تتكسر أمام عمق الفراغ الذي تركه في حياتي، وكثرة المواقف التي تذكرني به، وتعدد الأحوال التي أحتاج إليه بعد الله، وعلى افتراض أنني استطعت أن أنجح في الهروب من الإحساس بألم الفراق في النهار فسيزورني جزماً حين المنام، أو يأتي من الأحداث والمناسبات ما يأجج مشاعر الفقد. في منتصف الأسبوع الماضي وقبل أن يحل علينا هذا الشهر الفضيل ألمّ بي وبعائلتي وكل من يسكن معنا فيروس كورونا - كما أظهرت ذلك التحاليل الذاتية - فعادت صورة أخي وهو يوصيني بالحذر كل الحذر من هذا الداء القاتل الخطير، تراقصت أمام ناظري صورته المؤلمة وهو في غرفة العناية المركزة ولايمكن أن يصل له أحد حتى الدكاترة، وحوله الأجهزة الطبية المخيفة وهو منوم على بطنه ووجهه نحو الأرض، والزائر ينظر إليه من خلف الزجاج المدبول، أتذكر لحظة اتصال المستشفى عليّ فجراً لإخباري بمفارقته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته الحياة، أتذكر دموع أمي عندما أخبرتها بقضاء الله وقدره الذي حلّ بأخي، من كنت أشد عضدي به بعد عون الرب وتوفيقه. أتذكر منع إدارة المستشفى لنا - رغم كل المحاولات الجادة والواسطات القوية - من استلام الجثة، وغسلها، وتكفينها، والصلاة عليها في المسجد، أو حتى القرب منها وهو جثة هامدة. أتذكر حين أنزلوه رحمه الله من سيارة نقل الموتى وهو مسجى بالبلاستك حتى لا ينقل العدو للحاضرين في المقبرة الذين جاؤوا وهم مكممون من أجل المشاركة في تشييعه لداره الجديدة (القبر)، أتذكر هؤلاء المحبين وهم يعزوننا من بعيد، يبحثون عن أولاده الذين لم يتمكنوا من المشاركة في دفنه لإصابتهم حينها بهذا الفيروس. يا الله، يالله، يالله، الله لا يعيد تلك الأيام، ولا يعود شبح هذا الفيروس ولا ما ماثله من أدواء وأمراض معدية في حياتنا، ووقانا شر من به شر من إنس أو جان. أعيد هذه اللحظة وأنا أكتب مقالي هذا وحولي الأدوية (المضادات والمسكنات) سنوات العمر التي قضيناها سوياً وكأنها حلم ليل، مضت سريعاً بحلوها ومرها ولم يكن لي أن أتصور يوماً ما أننا سنفترق، ولكنه قدر الله المؤلم والواجب في حقه الصبر والاحتساب. كان رحمه الله رحيماً ودوداً نقياً صادقاً وفياً فزاعاً محباً للخير حريصاً على عون الغير سباقاً في خدمة أمه حريصاً على البر بها والوفاء لها حتى آخر أيامه. توفي والدي رحمه الله عز وجل ونحن صغار فكان لنا بمثابة الأب الحنون، يرعانا ويهتم بنا ويسندنا ويساعد والدتنا أطال الله في عمرها على تربيتنا وتجاوز معركة الحياة. رحمك الله يا أبا صالح وأسكنك الرب فسيح جناته وجعل قبرك روضة من رياض الجنة وصبرنا على فراقك ورزقنا الصبر والسلوان، وجمعنا بك في جنة النعيم على سرر متقابلين، وأبعد عنا وعنكم جميعاً فيروس كورونا وكل داء قاتل ومرض مُعْدٍ، وشهر مبارك على الجميع، وإلى لقاء والسلام.
مشاركة :