يتجدد رثاء المسرح في كل مرة يقع فيها تناوله بالبحث أو الاحتفاء أو غيره، فما ذكر هذا الفن إلا وتلا ذكره التحسر على مجده الضائع وتاريخه العريق قبل أن يتضاءل إلى فن تراثي. لكن هذه ليست الحقيقة، فحال المسرح في دول كثيرة مثل الدول العربية يعرف انتعاشة كبرى، بل وينبئ بتجديد كبير في هذا الفن. صار يأتي يوم السابع والعشرون من مارس من كل عام ويطل على العالم مكفهرا، متثائبا مبحوح الصوت، هلامي الملامح، واهن الحركة وبطيء الخطى، فلا تكاد تعلن عن اقترانه بـ”عيد المسرح” سوى المواعيد المؤرشفة رقميا وروتينيا في الأجندات الثقافية، هكذا هو اليوم العالمي للمسرح. احتفالات في مجملها، باهتة تكتفي بواجب قراءة كلمة من وقع تكليفه ـ أو تكليفها ـ بكتابة تلك السطور التي جاءت بدورها باردة مكررة، وأشبه بمراسم تأبين يحضر فيه من تبقى من أهل وأصدقاء “الفقيد” ثم يعود كل إلى بيته. المسرح وتحدياته في الغرب الأوروبي والأميركي أصبح المسرح "فنا تراثيا"، وفقد جزءا كبيرا من جمهوره ما عدا الشغوفين جدا لم يعد المسرح بيتا لأرواح أولئك الذين تزاحموا على شبابيكه وشغلوا مقاعده وتناقشوا في ندواته من جمهور، ولا حتى من ممثلين ومخرجين وفنيين شُغفوا به فافترشوا كواليسه وخصصوا له كل أوقاتهم، ومنهم من مات فوق خشباته. يجب أن نعترف بأن هذا المشهد الجنائزي القاتم لا يخص العالم العربي وحده، وإنما جميع مدن العالم، لا بل إننا محظوظون لكوننا حظينا على أكثر من مرة، بتمكين مسرحيين عرب من كتابة كلمة الاحتفالية التي تترجم وتقرأ بكل لغات العالم في مثل هذه المناسبة. حال المسرح على الخشبات العربية إذن، ليس في وضع سيء يستدعي رثاءه أو البكاء عليه. إنه في حالة استفاقة مقارنة بما آل إليه أبوالفنون في بلاد مشهود لها بالريادة والعراقة. وفي هذا الصدد، لا بد من ذكر كلمة حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، الرجل الذي عرف عنه سعة اطلاعه وغزارة إنتاجه في المسرح، بالإضافة إلى دعمه وتأسيسه لعدة تظاهرات وملتقيات مسرحية داخل الإمارات وخارجها، مما أفرز نهضة مسرحية مشهودا لها في العالم. ويُذكر أيضا، أن من بين المكلفين بصياغة بيان المسرح، كان السوري سعدالله ونوس، وسيدتان عربيتان هما الكاتبة المصرية فتحية العسال، وصولا إلى مواطنتها الفنانة المصرية سميحة أيوب، هذا العام، والتي دعت في كلمتها مسرحيي العالم إلى الوقوف صفا واحدا، يدا بيد وكتفا بكتف “لننادي بأعلى صوتنا كما اعتدنا على منصات مسارحنا ولتخرج كلماتنا لتوقظ ضمير العالم بأسره أن ابحثوا في داخلكم عن الجوهر المفقود للإنسان”. وأضافت الفنانة الملقبة بسيدة المسرح العربي، في بيانها الموجه لرجالات المسرح وأحراره في العالم، “لا بد من البحث عن الإنسان الحر السمح المحب المتعاطف الرقيق المتقبل للآخر ولتنبذوا هذه الصورة القميئة للوحشية والعنصرية والصراعات الدموية والأحادية في التفكير والتطرف والغلو”. Thumbnail كل هذا، وجميع ما جاء في كلمات المسرحيين العرب وغيرهم في هذه الاحتفالية، يشير إلى وعي إنساني راسخ برسالة المسرح، لكن الانطباع الذي بدأنا به هذه السطور حول غياب الحماسة والألق لا يزال قائما، ويلحظ في جميع مسارح العالم التي تلقى فيها كلمة السيدة أيوب في العالم. لا شك أن الاحتفالية الباهتة تقيم الدليل على أن المحتفى به ليس على خير ما يرام، لا في المسارح العربية فحسب، وإنما في نظيراتها بمختلف مسارح العالم، ومنذ السابع والعشرين من مارس 1961، أثناء المؤتمر التاسع لـ”المعهد الدولي للمسرح” في العاصمة النمساوية فيينا، ليعتمد هذا اليوم مناسبة سنوية لتسليط الضوء على الفن الرابع والاهتمام بشؤونه، في دول مختلفة من العالَم. ولو دققنا النظر في هذا التاريخ لتنبهنا إلى أن بروز فنون بصرية أخرى وتقنيات عرض وتصوير متطورة قد بدأت في الإقلاع وقتذاك، مكتسحة المسرح ومتجاوزة لأدواته السلحفاتية، لكن المشكلة أننا اكتشفنا ذلك متأخرين، فقط ليس إلا. يضاف إلى هذا التطور التقني في فنون الفرجة والتلقي، تطور آخر في شروط العرض والإنتاج، والتي شكلت قفزة نوعية في عدد الجمهور وأساليب الإقناع والإبهار، إذ أصبحت نصوص أسخيلوس وسوفوكل وشكسبير وموليير، نفسها أكثر إقناعا وإبهارا مع السينما أكثر من لو عرضت على المسارح. حتى في الغرب الأوروبي والأميركي، أصبح المسرح “فنا تراثيا”، وفقد جزءا كبيرا من جمهوره ما عدا الشغوفين جدا من أولئك الذين بقوا على قيد الحياة بفضل المؤسسات الثقافية الكبرى والجهات الراعية التي بفضلها ينتعش المسرح. المسرح الوريث Thumbnail لو نظرت إلى أحوال المسرحيين في البلدان المتطورة، لوجدت الذين يعيشون من المسرح ويكسبون منه عيشا رغيدا هم قلة قليلة، أما الغالبية فيعيشون على هوامشه، والمحظوظون منهم غادروه نحو السينما والتلفزيون إلى غير رجعة. يجب أن نعترف بأن المسرح غدا فن الفقراء بامتياز، وما نراه مجدا وعزة لدى أسماء لامعة مثل بيتر بروك وأرييل منوشكين وروبيرتو تشيلو في عواصم كباريس وبرلين ولندن، ليس سوى طفرات صنعت لنفسها “ماركات تجارية” وهي بدورها في طريقها إلى الانقراض. أما السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذا المشهد البائس: هل يغدو العالم العربي وريثا جديدا وشرعيا للمسرح في نسخته المعدلة وذات الملامح الشرقية الجديدة. نعم، يمكن لهذا أن يحدث وسط مجموعة معطيات ذاتية وموضوعية، منها السلبي ومنها الإيجابي، فلعل الأمر ينطبق عليه مقولة “مصائب قوم عند قوم فوائد”. لقد دأب الغرب على مر التاريخ، أن يرمي لشعوب العالم النامي بكل ما هو تالف ومنتهي الصلاحية، ويكتفي بما هو جديد وعائد بالنفع والفائدة، فما ضرنا نحن أن لا ندير ظهورنا للمسرح، نتمسك به ونسعى لتطويره في حدود ما يشبهنا ما دمنا لا نمتلك ولا نتحكم في أحدث تقنيات صناعة السينما والتلفزيون؟ نظرة بانورامية إلى حال المسرح في بلدان عربية مثل السعودية، الإمارات وتونس، كفيلة بأن تقنعنا بأن المسرح لا يزال بخير في بلداننا، فلماذا نفتعل الحزن عليه أسوة بعشاقه في البلدان الرائدة والمتقدمة.. هم، على الأقل، لديهم ما يبرر أسفهم ـ وكذلك ما يعوضهم عنه ـ أما نحن فعزاؤنا المسرح.
مشاركة :