أبيات نُقشت في ذاكرة أمةٍ ضربت جذور مجدها في أعماق حضارتنا العربية العتيدة، عُلقت في الأذهان وخُلدت في النفوس، وسُطرت بماء الذهب الخالص الذي زين ببريقه جِيد أمةٍ عريقةٍ، ما يزين السموط جيد المرأة الحسناء الفائقة الجمال. شعّ نورها، ولمع قبسها في ذلك الزمن الموغل بالقدم على هذه الأرض، الأرض الخالدة، سيدة التاريخ والحضارة، زخرت بها كبرى المؤلفات وردد التغني بها العرب جميعاً على امتداد قرون وعقود ماضية وحاضرة، إنها المعلقات الفصيحة الجزلة، التي جادت بها قرائح فحولة الشعر، تعود وتحيا ماثلة، كلما ذاعت وقيلت في سوق عكاظ وملاحمه الشعرية الغزيرة. مضت قرون من الزمن وتلتها قرون، وتخطت حدود الآلاف من الأعوام، عادت وأحيت في النفوس اعتزازاً وفخراً، بعودة تلك الملاحم الجزلة بلسان اليوم والحاضر، فكرة سامية بمضمونها وغايتها وتوقيتها، وصدق من جادت قريحته بها وسعة مخيلة أمير الشعر والإحساس، شاعر الحضارة العربية المجيدة الخالدة بأوج اتقادها صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن مساعد بن عبدالعزيز آل سعود، الذي ضرب في سهم التراث مبلغاً عز نظيره، وأحيا في النفوس أثراً كادت عاديات الزمان أن تمحوه بتقادم الليالي والأيام، فاستنطق سموه امريء القيس، الذي وقف على ذكرى حبيب ومنزل، لكنه اليوم لم يقف باكياً، بل وقف فرحاً منشداً سيرة مجد وطن بلغ مجده عنان السماء، ليدعو عمرو بن كلثوم لِيَهُبَ ويحكي كيف أن الجبال السامقات تخر ساجدة، حين جاد الأُلى بدمائهم وأنفسهم وقدموا الأرواح رخيصة، وبذلوا الغالي والنفيس ليكون وطنهم وبلادهم منارة يهتدي السائرون بها، ليعرف عنترة بن شداد العبسي الديار العامرة، ولا يتوهم بها، فهذه الديار ديار حق وطهر وإيمان، يقف في حضرتها طرفة بن العبد، بعزيمة وقوة، يقول فيها لصحبه ورفاقه، وكل من على هذه المعمورة: إن هذه البلاد قامت بجلد وعزيمة أشاوس لم يعرفوا التردد لحظة. وحيّا زهير أبي سُلمى هذه الديار، كما حياها في ذلك الزمان، في صباحها والمساء، وعرفها زاهية ماجدة شامخة كما عرفها في ذلك الحين، قائمة على قيم الأصالة والفخر. فَرياضُ القَطا فَأَودِيَةُ الشُّرْ بُبِ فَالشُّعْبَتَانِ فَالأَبْلاءُ التي عهدها الحارث بن حلزة مشعة في يومه، تشهد اليوم ولا تخفي سراً عن روح سارت وأحيت مجداً مؤثلاً عريقاً، يُحاكي أصالة وعصراً متقدماً ذا تقدم رفيع، أضاء برق سنائه أشد الليالي سوداً وحلكة، فأنارت دروباً ومسالك طويلة، فبدت كالقناديل المتقدة في الليل الحالك لايراها ويبصرها من لم يحظَ بكرامة الله أن يكون ذات يوم ممن تظلهم السماء على هذه الأرض السعيدة الطيبة، لقد رأينا سناء ذلك البرق كما رآه الأعشى في معلقته، إذ قال: بل هل ترى عارضًا، قدبت أرمقه... كأنما البرق في حافاته شعل؟ إنه الاعتماد على الله والإيمان به، الذي جمع عزيمة وإيماناً من السابقين الأخيار ليكون يومنا هذا عنواناً ينظر إليه الجميع، نظرة الإجلال والتقدير، وتمنيهم قراءة ما في كوامنه، نعم إنه الإيمان والاعتماد على الله وحده، وكأنني ألمس في معلقة عبيد بن الأبرص، دعوته منذ حينه إلى هذا الإيمان، إذ قال: وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير لقد استطاع سمو الأمير الشاعر الفذ، والطود الأشم حقا ًالاستفادة مما مضى، ومعايشة الواقع الجميل بكل تفاصيله، مستشرفاً مستقبلاً ناصعاً مبهجاً، بعد أن غاص في بحر المعلقات القوية، واستلهم من وحيها وظروف شعرائها حينما ارتجلوا بقولها، نهجاً سديداً، عابراً الأزمنة المتتابعة التي تمضي مستمرة بحول من الله وقوة منه، فكيف لا يكون ذلك، فحينما نقرأ معلقة النابغة الذبياني، ندرك كيف كان للزمان من أثر كبير وبالغ في معلقته. شعور فائق هو ذلك الذي امتلكني حين حضرت فعاليات الملحمة المسرحية الشعرية، في المسرح الأحمر في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، هذا الصرح الأكاديمي المميز من صروح المملكة الشامخة، لم تكن مسرحية فحسب، بل سافرت خلالها إلى ماضٍ، ماضٍ ليس بالقريب بحال، لا أدري ماذا أوصف المشاعر، التي امتلكتني حينما عرض نخبة خيرة من أبناء وبنات المملكة العربية السعودية، أجمل اللوحات، وامتزجت مشاعر الفخر والاعتزاز حينما عُرضت صور الملوك الكرام، من الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، وأشباله الأشاوس الملوك: سعود, وفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جنانه، حتى عُرضت الصورة المشرقة لملك الخير واليُمن خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، الذي يُسطر بحكمته وقيادته، وعطائه الفذ ملحمة جديدة تضاف إلى سِفر تاريخ المملكة العربية السعودية، وصور ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان آل سعود عراب رؤية الخير، رؤية 2030، التي ترسم المستقبل المشرق المؤمن بالماضي العريق، حينها أيقنت كيف يمكن أن يكون إحياء النفوس اليوم عرفت وأدركت، حين يكون هنالك ملمهمون ومبدعون لا يشق غبارهم، عرفوا كيف يولد النور في النفوس، نفوس العرب جميعاً حين يُستنطق إرثهم وتراثهم، وتقديراً رفيعاً للشعب السعودي النبيل، الذي سار في الركب المجيد لبناء وطنه وحضارته وتلاحم بعزيمة لاتلين مع قيادة حكيمة ورشيدة. حُييت سمو الأمير من شاعر أبدع، فأجاد، ورسم أقوى الملاحم وأجزلها، وأعاد للنفوس حياة رائعة.
مشاركة :