قد يكون سيغموند فرويد صاحب اليد الطولى، عند بدايات القرن العشرين، في النهضة التي عرفها علم النفس، وكذلك في بروز التحليل النفسي كعنصر أساس من العناصر المرتبطة بذلك العلم. فهو بالتأكيد واحد من أكبر المؤسسين الرواد في كلا المضمارين. ومع هذا لن يكون من قبيل الإنصاف الموافقة على أنه هو الأول والمؤسس ولا سيما بالنسبة الى علم النفس، ذلك أن هذا العلم المعروف والمعتمَد منذ أرسطو على الأقل، عرف في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، نهضة كبيرة لا تضاهى. وهي نهضة استفاد منها فرويد بوفرة، حيث نجده يتحدث باضطراد عن دين في رقبته للفرنسي شاركو لا سيما في مجال دراسة الهستيريا. ومع هذا ثمة كتاب لم نجد فرويد يشير إليه إشارات كافية مع أنه كان أقرب إليه، من الناحية الزمنية، وسبقه في رسم بعض الحدود الأساسية لميادين علم النفس. ونعني بهذا كتاب ويليام جيمس الصادر في العام 1890 في عنوان «مبادئ علم النفس». صحيح أن الزمن منذ فرويد ولاحقاً قد تجاوز كثيراً الأطروحات التي تناولها جيمس في هذا الكتاب، لكن هذا لا يمنع من اعتباره دائماً، كما اعتُبر حين صدوره، عملاً ضخماً في مضماره، وكذلك عملاً تجديدياً. ومن المؤسف أن يكون مؤلفه الأميركي قد رحل عن عالمنا في العام 1910، من دون أن يكون قد «تداول» في شأنه مع زميله النمسوي الكبير الذي كان عامذاك يعيش اسمى سنوات مجده. وربما يكون غياب التداول بينهما راجعاً الى ان ويليام جيمس لم يكن ليعتبر نفسه عالم نفس حقيقيّاً. كان يعتبر نفسه ويُعتبر فيلسوفاً. وهو كان على أية حال، فيلسوفاً بالمعنى التقني للكلمة. حيث أن ويليام جيمس، -وهو الأخ الأكبر للروائي الأميركي المعروف هنري جيمس، وبالتالي ابن فيلسوف اللاهوت هنري جيمس الكبير -، أنفق معظم طاقته وسنواته الكتابية على وضع كتب فلسفية واجتماعية كانت لاهوتية أكثر منها سيكولوجية، واعتبر بالتالي دراسة علم النفس مجرد استكمال لهمّه الفلسفي. > في هذا الكتاب الذي أسبغ على مؤلفه، مع هذا، صفة «الأب الشرعي» لعلم النفس الأميركي، يتناول جيمس مسألة علم النفس إنطلاقاً من أربعة مبادئ - أو عناصر - قام عليها تحليله العلمي برمّته: «تيّار الوعي» الذي تحدث عنه مؤرخو حياة هذا المؤلف باعتباره «الكناية السيكولوجية الأساسية» التي غاص فيها وفي ثناياها لصياغة مفاهيمه، ثم «الشعور» الذي سيُعرف لاحقاً باسم «نظرية جيمس/لانج»، فـ «العادة» حيث يفيدنا أن عادات الإنسان إنما تتشكل في شكل متواصل ومتراكم للوصول به إلى نتائج محددة، وأخيراً «الإرادة» وهذا العنصر الأخير استقاه المؤلف، كما يقول لنا بنفسه، وإسوة بما سيفعل فرويد لاحقاً في مجال دراسته علم الأحلام، من تجاربه الشخصية. ولقد كرس جيمس فصول كتابه الضخم هذا (الذي يصل عدد صفحاته في طبعته الإنكليزية الأولى الى نحو 1400 صفحة) لدراسة كل من هذه المبادئ الأربعة، ولكن بعد تمهيد شرح فيه المؤلف تفاصيل ما كان معروفاً حتى أيامه من تحديد موقع كل وظيفة من وظائف هذه المبادئ في دماغ الإنسان - وفي هذا المجال بالتحديد يمكن القول ان الزمن والاكتشافات البيولوجية اللاحقة قد تجاوزت جيمس -. ومن هنا القول إن دراسة ويليام جيمس لعلم النفس في كتابه هذا كانت تجريبية تأملية إنما من دون ان تستند الى التجربة العيادية التي سيستند اليها فرويد وتلاميذه. مع الإشارة الى أن جيمس كان كثيراً ما يلجأ الى المنهج المقارن في تحليلاته النظرية مشتغلاً في شكل خاص على تأملاته في مجرى الحياة كما على حدسه». أي على علاقته الذاتية بالحياة والحقيقة... حيث «ما من أحد أحب الحقيقة حباً أحر من حبه. وما من أحد بحث عنها بمثل هواه». هذا الكلام الحماسي قاله عنه ذات يوم برتراند راسل. ولئن كان قائل العبارة قد أصاب من الشهرة في قرننا العشرين قدراً كبيراً، فإن ويليام جيمس «الذي أحب الحقيقة» بدوره لم يكن ليقل عنه شهرة، حتى وإن كانت شهرة مذهبه الفلسفي جعلت لهذا المذهب كينونته الخاصة، بحيث أن التحدث عن المذهب - وهو البراغماتية - كان نادراً ما يقرن بالتحدث عن صاحبه. > إذاً فإن ويليام جيمس، الذي توفي في العام 1910 ست سنوات قبل أخيه هنري، كان من ذلك النوع من الفلاسفة الذين بنوا مذهبهم انطلاقاً من حدسهم ومعضلات تأملهم في الحياة، كما أشرنا، بأكثر مما بنوه انطلاقاً من رغبة عقلانية حاسمة في الوصول الى صياغة مذهب معين. ومن هنا كان معظم الذين كتبوا عنه وفسروا مذهبه رابطينه بتقلبات حياته الروحية والمادية، ينطلقون في الكتابة عن فلسفته، من سيرة حياته، تلك الحياة التي بها يمكن تفسير كل شيء في نهاية المطاف. ولعل الجانب الذي توقف عنده كاتبو سيرة ويليام جيمس أكثر من غيره هو المتعلق بعلاقته الصدامية بالجيمس الآخر، هنري جيمس، أحد أكبر الروائيين الأميركيين عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين. فلقد وضعت حول علاقة الأخوين هنري وويليام دراسات وكتب أرجعت الى التناحر بينهما رغبة كل منهما في تخطي الآخر. ومن هنا كان سعي هنري للتعبير عن نفسه في الكتابة الروائية، فيما سعى ويليام في دروب الفلسفة تقود خطاه. ومما لا شك فيه أن ذاتية ويليام جيمس الطاغية هي التي قادته لابتكار مذهب البراغماتية (التجريبية، أو الذرائعية) الذي انبنى لديه خطوة خطوة، خلال حياة بداوة بدأت منذ طفولة الشقيقين يوم اصطحبهما والدهما الى أوروبا صغيرين، فإذا بهما يشعران لتوهما أنهما «شيء آخر» مختلف عن بقية مجايليهما الأميركيين. بعد ذلك تنقل الاخوان كثيراً، أحيانا سوية، وأحياناً كل على سجيته. ثم راح كل منهما يصنع مستقبله مستقلاً عن الآخر، وهكذا. > لقد وجد هنري في الرواية متنفساً له، ووسيلة توصله الى التفوق، وورث ويليام عن أبيه الميل الى دروب التفكير البعيدة من العقيدة القويمة، واهتمامه العميق بالقيم الأخلاقية والروحية. ولقد تضافر ذلك كله مع شكوك عميقة ساورته لدى قراءته داروين، مما جعله يعاني كثيراً في مجال رغبته بالتوفيق بين ميله الإيماني الداخلي والفكر العلمي الذي بدا لديه مناهضاً لذلك الميل. وهذا كله تمخض لديه وهو في أواسط العشرين من عمره عن توفيقية يمكن تلخيصها على النحو التالي: «ان الإرادة البشرية تبقى دائماً حرة، وفي الوقت نفسه يحتفظ الإيمان، حتى ولو تجرد من مضمونه اللاهوتي، بحقوقه الخاصة كوسيلة داخلية لا غنى عنها للحفاظ على الحياة». والحقيقة أن توصل وليم جيمس الى هذه القناعة، حدد له، باكراً، توجهاً فلسفياً صاغه في ما بعد خطوة خطوة، بطريقة شديدة التجريبية. > كان وليم في الثلاثين حين بدأ، في جامعة هارفارد، مهنة تدريسية وأصلها طوال عمره، وهو في الوقت نفسه راح يوسع من دائرة اهتماماته الفلسفية لتشمل دراسته شتى أنواع العلوم والآداب، وصولاً الى السيكولوجيا التي سرعان ما جعل منها القاعدة الأساسية لتفكيره الفلسفي، وبخاصة في واحد من أفضل كتبه «إرادة الاعتقاد»، حيث جعل لظاهرة الإيمان تبريراً سيكولوجياً، ممهداً بهذا تمهيداً تاريخياً - لاهوتياً لكتابه المؤسس في مبادئ السيكولوجيا. وهو عاد وطور ذلك الأمر في كتابه الأشهر «الصور المختلفة للتجربة الدينية» (1902) حيث درس الإيمان الديني من وجهة نظر صلاحيته السيكولوجية في حياة الانسان، أي من وجهة نظر «ذرائعيته التجريبية» انطلاقاً من سؤال هو: هل التجربة الدينية مفيدة أم لا للبقاء الانساني ولاستمرار الحياة وللخلاص الروحي والاجتماعي؟ وكان جوابه أنها مفيدة وضرورية. > ويليام جيمس الذي قال عنه أميل بوترو أن فلسفته «هي في جوهرها مفتوحة، إذ إنه يمضي الى الأمام بإقدام، وليس له من مرشد سوى التجربة»، عاش خلال النصف الثاني من عمره حياة هادئة ووضع العديد من الكتب التي جعلته واحداً من أكبر الفلاسفة الأميركيين على الإطلاق، ومن أبزرها، إلى ما ذكرنا: «الذرائعية» (1907) و «مثال الحقيقة» (1909) و «كون تعددي»، اضافة الى الكتب الكثيرة التي نشرت بعد رحيله وتضم مقالاته ومحاضراته ورسائله.
مشاركة :