النسخة: الورقية - دولي إذا كان ظهور سيغموند فرويد في فضاء علم النفس، ثم التحليل النفسي، عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد أضاء هذا الفضاء، وحدّد للأزمان اللاحقة بعض العلاقة الأساسية بين الوعي والوعي الباطن، وبين حياة الانسان وأحلامه، وبين سلوكه اللاحق ودوافعه الجنسية المبكرة، فإن ثمة عالماً فرنسياً هو البروفسور شاركو، لا بد من القول انه قد ظُلم نتيجة ظهور فرويد، ذلك انه سبق هذا الأخير في الكثير من البحوث التي أجراها والنتائج التي توصل اليها، لكنه ظل في الظل الى حد ما، واحتاج الأمر الى عقود طويلة من السنين قبل ان يعاد إليه اعتباره كرائد، وقبل ان يعاد اكتشاف دراساته الهامة، لا سيما في مجال الهلوسة وتأثيرات اندفاعات العقل الباطن في حياتنا وتصرفاتنا. غير ان الكاتب الفرنسي غي دي موباسان، معاصر البروفسور شاركو، لم ينتظر الأزمان التالية حتى يكتشف هذا العالم ويكشف عن عمق أعماله. فهو ما إن تعرّف إليه وقرأه، وصار جزءاً من الحلقات المحيطة به، حتى وجد في افكار ذلك العالم ما يمكن استخدامه في مجاله الأدبي... وهكذا، اتسمت بعض اجمل قصص دي موباسان ولا سيما الأخيرة منها بسمات مستقاة مباشرة من بحوث البروفسور شاركو. لكن المؤسف ان الأمر لم يقتصر على هذا التأثّر في المجال الكتابي، إذ ان موباسان سرعان ما تأثر في حياته الشخصية نفسها ببحوث شاركو حول الهلوسة والجنون والاندفاعات الباطنية، ما دفعه الى الالتجاء عند نهاية حياته الى مأوى لأصحاب الأمراض العقلية ظل نزيله المهَلْوس والمرعوب حتى قضى فيه نحبه. * والحال ان في امكاننا تلمّس جذور تلك الحال والنهاية التي آل اليها غي دي موباسان، في واحدة من آخر المجموعات القصصية التي أصدرها وعنوانها «لي هورلا». وهي تضم عدداً من القصص القصيرة التي تختلف جذرياً عما كان القرّاء اعتادوه من أدب موباسان الواقعي المتسم عادة بشيء من الغرائبية وبشيء من التحليل النفسي للشخصيات والعلاقات في ما بينها، لا سيما حين تطاول هذه العلاقات أبعاداً اجتماعية. أما في مجموعة «لي هورلا»، فإن البعد النفساني طاول جوانية الشخصيات، بحيث إن كل شخصية تشغل وحدها، بهواجسها وأفكارها ومخاوفها، حيز القصة كله، لتعيش آلامها ونهايتها استناداً الى ما يعتمل في تلك الجوّانية. ولعل النموذج الأكثر قسوة يكمن في القصة التي تحمل المجموعة اسمها. و «لي هورلا» الذي أعار اسمه للقصة وللمجموعة هو مخلوق غامض غير مرئي مكون من مادة اثيرية، تمكن من ان «يستولي» على جسد شخص آخر فيوقعه تحت سيطرته ويتحكم فيه موصلاً إياه الى دماره. وفي هذه القصة القصيرة، يحدث لبطل القصة، وهو يعيش حالاً متقدمة من مرض غامض ووراثي أصابه – تماماً كما كانت حال غي دي موباسان نفسه حين كتب هذه القصة – ان يشعر ذات يوم بوجود غريب لكائن غير طبيعي في بيته سرعان ما يعطيه اسم «لي هورلا»، وهو ذلك الكائن الخرافي الذي تتحدث عنه الحكايات الشعبية القديمة ككائن هلامي يمكنه ان يعيش حياته كما يشاء من دون ان يتمكن اي من الحواس الخمس من إدراك وجوده. هذا الوجود يدرك فقط من خلال ما يفعله في روح الجسد الذي يتقمصه ويستحوذ عليه، ومن خلال أحاسيس صاحب هذا الجسد ومخاوفه وهلوساته: إنه في نهاية الأمر، كائن أعلى من البشر يقرر ذات يوم ان يستولي على روح وجسد من يحلو له من هؤلاء، ويبدأ بفرض إرادته عليه حتى يصبح هذا الإنسان مجرد عبد للهورلا، واضعاً كل قدراته وطاقاته المادية والمعنوية في خدمة إرادته. واللافت في قصة موباسان ان الكاتب يقدم لنا الحكاية وقصة استحواذ الهورلا على بطله، من خلال مخطوطة يعثر عليها، كتب فيها البطل يومياته واصفاً ما يحدث له، لا سيما خضوعه للكائن الأثيري. وكيف ان علاقته به تقوم على همس يفرغه هذا الكائن في أذنه ولا يسعه هو إلا أن يطيعه. لكن الحكاية كما تروى لنا في «اليوميات» تتوقف بغتة كما لو ان من كتبها اختفى فلم يعد يمكنه المتابعة. والحال ان هذه النهاية ازعجت قرّاء موباسان إذ رأوا انه حين ترك القصة من دون نهاية، إنما حكم على قرائه أن يعيشوا حالة رعب مثل تلك التي عاشها بطله، وبالأحرى مثل تلك التي كان هو نفسه يعيشها... ذلك ان موباسان انما رسم هنا، من خلال شخصية البطل وعلاقته بـ «الهورلا»، رعبه الخاص وجنونه الخاص الذي كان بدأ يستحوذ عليه. * ومع هذا كان موباسان يدرك في ذلك الحين ان الخوف إنما هو أمر قائم في داخلنا ولا يأتي من خارجنا، فـ «نحن غالباً ما نكون ضحايا أحلامنا الخاصة» و «نادرة هي المخاوف الأساسية التي يمكن ان تولد من خارج أعماق ذاتنا». وفي هذا الإطار تبدو تعاليم شاركو واضحة لدى موباسان حين يتساءل، ويدفع قراءه الى ان يتساءلوا معه: من منا لا يحتفظ بذكرى مخاوف طفولته... تلك الرجفة العميقة التي يثيرها لديه صوت باب يغلق، أو ريح تغلق خلفها شباك، أو أصوات تأتي مهمهمة وسط الصمت؟ وموباسان، في خضم مثل هذا الحديث كان لا يرى ما هو أسوأ من الصمت: الصمت إذ يغلف الوجود يبدو مملوءاً بضروب ضجيج مرعب وغامض. وبالنسبة الى هذا الكاتب لا يمكن مثل هذا الضجيج ان يوجد إلا في داخل وعينا: هناك يولد ويعيش وينتشر لكي يغرقنا في اعتى ظلمات قلقنا. * وغي دي موباسان، الذي كان دائماً حالماً يقظاً، يجعل من كتاباته الأخيرة صدى لذلك الوعي العميق الذي كانت تملأه شياطين الداخل. لكن عالم موباسان لم يكن فلسفياً ولا تحليلياً، كان انسانياً بالأحرى: الخوف لديه جزء أساس من الطبيعة البشرية يبرز في لحظات القلق والحزن واليأس العميق. وفي هذا السياق قد يصح اعتبار هذا الكاتب أباً شرعياً لكل ذلك الأدب (الذي عرفت سينما القرن العشرين كيف تعبّر عنه بالصورة) الذي جعل من الرعب فعلاً إنسانياً عميقاً. وحسبنا للتيقن من هذا ان نقرأ حكايات اخرى له مثل «النزل» حيث يفقد البطل صديقه خلال رحلة صيد، فتظل روح هذا مهيمنة عليه تعيش معه. ومثل «المركب» حيث يحدث لشخص يعبر بمركبه نهراً، ان يشعر فجأة بقوة تحمل المركب وترميه في الماء. كما في «الخوف» حيث يحلل موباسان ذلك الشعور غير العاقل الذي يستولي على الروح ويحيطها بمخاطر مرعبة لا وجود لها في الخارج: ان الرعب يأتي هنا من داخل الروح البشرية إذ تجد نفسها على احتكاك بمخيلتها ومحاولتها تفسير هذه المخيلة. * في مثل هذه الحكايات، التي تمثل جانباً من إنتاجه الذي غلبت على المبكر منه سمات اجتماعية وواقعية، عبّر غي دي موباسان عن الواقع الذي عاشه خلال السنوات الأخيرة من حياته، تماماً كما عبّر عن تأثّره بتحليلات البروفسور شاركو. وموباسان الذي ولد في العام 1850 ومات بعد ذلك بثلاثة وأربعين عاماً، عاش طفولة عادية، وإن كان والداه تطلقا باكراً، إذ ربته أمه القوية والقارئة بنهم، ما دفعه الى القراءة بنهم هو الآخر منذ طفولته. غير ان توجهاته الأدبية لم تبرز لديه إلا لاحقاً حين ذهب ليعيش في باريس وتعرّف الى جماعة من الأدباء والنقاد من بينهم فلوبير، وبدأ يكتب وينشر تحت تأثيرهم، لا سيما في مجال القصة القصيرة، الذي ارتبط به معظم انتاجه الأدبي. ولكن، بعد فترة يسيرة من بداية نجاحه الكبير ككاتب، أصيب بذلك المرض الوراثي الغامض الذي اخذ يتفاقم حتى اوصله الى نهايته بعد ان أثّر في معظم ما كتبه. وخلق ذلك التيار من القصص الغامض والمؤلم الذي أثّر بدوره على كتّاب وقرّاء كثيرين حاملاً قلقاً غامضاً غموض «الهورلا».
مشاركة :