يوميًّا نرى حملات منظَّمة، مُوجَّهة ضد بعض الأسماء الأدبية العربية المعروفة، وأكاد لا أعرف الأسباب إلاَّ سببين مرضيين: الحسد المستشري، والضغينة التي تخدع صاحبها مهما حاول أن يخفيها. المشكلة أن الظاهرة تعمَّمت بشكلٍ خطير في العالم العربي؛ ممّا يعني أن هناك نظامًا داخليًّا يحكم الظاهرة. هناك عقلية مهزومة تريد أن تمسح كل شيء يظهر بشكل مختلف. ترى في نجاح الآخر الذي هو منها ثقافيًّا وحضاريًّا، هزيمة مضافة لها، لأن الطبيعي في منطقها أن يتساوى الجميع في حدود المتوسط. المشكلة طبعًا ليست في الموقف الأدبي من النصوص، ولا في نقدها، أو حبّها من عدمه، هذه مسألة طبيعية تتطلّب فقط من الشخص الذي يرفض النص، أن يقرأه أولاً. أن ينتقده كما يحلو له، لكن على بيّنةٍ وليس رمي الكلام بلا مسؤولية. المصيبة أن السهام توجَّه في كل مرة نحو الأسماء التي ترسَّخت، وجاءت شهرتها من خارج الوطن، مُعيدة إنتاج فكرة لا نبي في وطنه بشكل واضح. درويش -رحمه الله- ونحن نتحدّث عن هذا الموضوع في أبوظبي، يوم فوزي بجائزة الشيخ زايد، نشط أمسية شعرية بعنوان: «يريدون أن يموت الأذكياء كرامة للأغبياء».. فهل من الضروري أن يدفع كاتب مشهور، ثمن كاتب آخر، أو كتّاب آخرين يدورون في طاحونة الفراغ؟ نحن مَن يصنع الشهرة، وليست هي مَن يصنع الكاتب. هي لا تعني شيئًا ولكن مجاهدي الحروب الخاسرة جعلوا منها قضية. هي ثمرة لجهد متواتر، أو لصدف طارئة لها أنظمتها الداخلية المعقدة، لا يتحكّم فيها لا الكاتب، ولا ناشره، ولا مُحبّوه. ما جدوى أن يُحوّل الكاتب في عالم الأقليات المبدعة، إلى هدف يجب النَّيل منه بكل الوسائل التي لا علاقة لها لا بالأخلاق، ولا بالأدب. ما جدوى التشكيك في شهرة لا تُفيد القارئ؟ طبعًا، هناك حروب شبيهة في العالم الغربي، وأمريكا، وآسيا، لكنّها تبنى في الأغلب الأعم على موقف من المنتج الأدبي مثلما يحدث عادةً مع كُتَّاب عالميين كبار، وحتى مع الحائزين على نوبل. الكاتب في عالمنا العربي لا يهم أحدًا إلاّ قراءه، لأنّه ضمن السوية الاعتيادية، لكنه بمجرد أن تتوجَّه الأضواء نحوه بالحصول على جوائز، أو بالاهتمام بعمله، أو بترجمة استثنائية تقذف به نحو الواجهة العالمية، تبدأ العداوة في الانتشار عن طريق الوسائط الاجتماعية. كان نجيب محفوظ أديبًا كبيرًا، ومات كبيرًا خارج دوائر الضغينة. لكنه بمجرد حصوله على نوبل تَحوَّل حب الكثير من الأصدقاء إلى عداوة حقيقية. بدل الافتخار به ككاتب حقق عالمية، كم كان الأدب العربي في حاجة ماسّة إليها. طبعًا نستطيع أن نقول ما نريد حول الأسباب التي دفعت بنوبل إلى منح نجيب محفوظ الجائزة، لكنه ليس مهمًّا. فهو قد فاز، ويجب أن يُحتفى به. جيّد أن عالم الضغينة يتوازن مع عالم المحبة والاعتراف بالجهد. بل إن الموضوعين حبًّا ونقدًا أضعاف مضاعفة بالقياس إلى المجموعات العدمية. هذه الظاهرة العربية بامتياز تكاد تكون غريبة، تستحق منّا أن نتأملها عن قرب، لا لقيمتها لأنّه لا قيمة لها في الأصل، إذ إن أسهل شيء هو العلاقة مع كتاب. لا أحد يجبرك على قراءته. إمّا أن تحبه ليصبح جزءًا من ذاكرتك الأدبية أو لا تُحبّه (وقد لا تُحب صاحبه)، وما عليك إلاّ أن ترميه وراءك أو تُؤثِّث به المدفأة الشتوية وترتاح منه، لكن ليس مضمونًا أن ترتاح من صاحبه، ولا يُؤثِّر ذلك في مسارات الكتاب الذي صنعوا أسماءهم من الشطط المضني والقناعة بما يفعلون، أو بسلسلةٍ من الصدف الجميلة، لأن الشهرة مشروطة أيضًا بذلك. لا سن للضغينة، قد تأتي من فتى شاب يدخل عالم الكتابة ويُشكِّل له حضورك ضيقًا وإزعاجًا كبيرين، كأنك تقف في المنطقة التي تسد عنه مرور الأضواء. وقد تأتي من أبناء جيلك من الذين لم تكن لهم حظوظك في الكتابة، ولأن طاحونة الفراغ ظلّت تتسع فيهم على الرغم من أنهم جرّبوا كل حيل الشهرة بالرقص عراة أو الهجرة نحو لغة أجنبية لا يتقنونها جيدًا، لكن مساحة الأدب تكشف كل العورات، لا تمنحهم عمرًا كم يتمنونه. قبول نجاح الآخر ليس مسألة عادية في العالم العربي، لكنه تربية. نضال يومي مع النفس، لأن الأهواء البشرية قاسية ودافعة إلى الجنون أحيانًا. ومن غير المقبول أن يصل الحقد على النجاح أو الشهرة إلى درجة الضغينة والافتراء الذي لا لغة تواجهه إلاّ كلمة الرسول الأكرم: «إذا لم تستح، افعل ما شئت». فأي نقاش حولها قد يرمينا في مساحات لا نرتضيها لنا أو لغيرنا.
مشاركة :