«ديزي ميلر» لهنري جيمس: الأخلاق بين أوروبا وأميركا

  • 2/11/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من ناحية مبدئية، أي من ناحية مواطنيته كان الكاتب هنري جيمس أميركياً كما حال أبيه الفيلسوف المسمى أيضاً هنري، وأخيه المفكر والفيلسوف المعروف ويليام جيمس. غير انه، من ناحية التذوق والهوى والتوجه الثقافي العام، كان أوروبياً. أو بالأحرى كان من ذلك الرهط من الكتاب والمفكرين الأميركيين الذين، بعد بدايات في بلدهم، أحسوا بضرورة العودة الى أوروبا، على اعتبار أنها هي جذر الجذور بالنسبة اليهم. بل إن معظم أدب هنري جيمس، انما كان يتحدث تحديداً عن تلك العودة، وبالأخص عن أميركيين يملأون رواياته وقصصه قيّض لهم، باختيارهم او لظروف خارجة عن إرادتهم، أن يقوموا بزيارة ما الى اوروبا ليعيدوا اكتشاف ذواتهم من خلالها، وليس فقط ليعيدوا اكتشاف القارة في حدّ ذاتها. وكان هذا يتم غالباً على ايقاع سيكولوجي جوّاني يعتصر الشخصيات دافعاً اياها الى نوع من المقارنة بين الثقافتين الأميركية والأوروبية في شكل أكثر تحديداً، بين الأخلاق الاجتماعية وتلك الفردية في القارتين. ونحن، لئن كان في إمكاننا أن نعثر على هذه المقارنة في روايات وقصص كثيرة من نتاجات جيمس، فإن روايته القصيرة «ديزي ميلر» (1878) تكاد تكون الأفصح تعبيراً عن هذا البعد، والأكثر اختصاراً لفكرة الكاتب الرئيسة حول العلاقة بين العالمين القديم والجديد. ولا بد من أن نبدأ حديثنا هنا بالإشارة الى ان «ديزي ميلر»، بسبب فكرانيتها الرئيسة هذه، كثيراً ما أغرت كتاباً آخرين بالكتابة على منوالها، كما أغرت، لاحقاً، سينمائيين باقتباسها، غير ان الواقع يقول لنا، إن المحاكاة كما الاقتباس، نادراً ما التقطتا الروح الحقيقة للرواية، أي مغزاها الحضاري، مفضّلين في أغلب الأحيان الاكتفاء بتصوير «أحداثها» من الخارج والشخصيات في سماتها البرّانية. ولعل هذا ينطبق في شكل خاص على ذلك المشروع الواعد الذي كان السينمائي الأميركي والناقد بيتر بوغدانوفتش قد نفذه في السبعينات، باقتباس الرواية في فيلم حققه، لكنه تبدى في نهاية الأمر واحداً من أكثر أفلامه فشلاً، لتبقى الرواية صامدة في نصّها الأدبي، ولتبقى شخصية ديزي ميلر نفسها عصيّة على الانتقال الى الشاشة الكبيرة. > والحقيقة أن إدراك البعد الحقيقي لرواية «ديزي ميلر» يحتاج في شكل خاص الى نوع من الغوص في حياة وأعمال كاتبها. ولئن كان من الصعوبة بمكان الوصول الى مثل هذا الغوص هنا، قد يمكن على الأقل الاكتفاء بالإشارة الى ظروف وأجواء كتابة الرواية حيث إن هذه الإشارة قد تكفي لإنارة بعض تلك الخلفية. ففي الفترة التي كتب هنري جيسم روايته، كان واقعاً في آن معاً تحت تأثير أسلوب الروسي إيفان تورغنيف الواقعي النفساني، وأسلوب الفرنسي بول بورجيه، الدرامي الرومنطيقي، ومن هنا كانت استعارته لشخصية ابنة عمه ماري تامبل، التي ماتت بالسل، ليبني انطلاقاً منها شخصية ديزي، الفتاة الثرية الأميركية التي كانت – شأنها شأن معظم العائلات الثرية الأميركية التي هربت من الحرب الأهلية ومستتبعاتها – تعيش متنقلة بين العواصم الأوروبية، طافحة بالروح الأميركية التحررية، التي نشأت مع نشوء المجتمع الأميركي. وقد التقت ديزي بشاب أميركي عاش في اوروبا فترة طويلة كانت كافية لتنسيه الكثير من المفاهيم الأميركية، فأحبها وأحبته. كل منهما أحب الآخر على طريقته المختلفة، فتنقلا بين مدينة وأخرى بعيدين من بعضهما بعضاً، وكان يطاردها من دون أن يجرؤ على الاعتراف بما يريده منها، وكانت هي تراقبه من دون ان تحاول إفهامه حقيقة مشاعرها تجاهه. > وفي ظل هذا الجو، تتمرد ديزي على الكثير من القيم المعمول بها وتحاول ان تنال كل ما تريده، وان تستمتع بحياتها كما تشاء، لكن هناك دائماً العقبات الاجتماعية التي تحاول ان تحد من حريتها. غير أن ديزي، في طيش ولا مبالاة، تتجاوز كافة العقبات والمعايير الخلقية، لتقع في النهاية فريسة «الحمى الرومانية» التي تقضي عليها، فتدفن في آخر مشهد من الفيلم، مخلفة حبيبها – بعدما تأكد من خبرها – في ندمه لكونه لم يفهمها، ولأنه – وهو الأميركي – ظل بعيداً من إدراك عواطفها تجاهه، مكبّلاً بأغلال أخلاقية واجتماعية موروثة حالت بينه وبين إنقاذ قصة الحب التي كان من شأنها ان تؤدي الى نهاية سعيدة، لولا تلك الأغلال التي شكلت – في الحقيقة – حواجز نفسية داخيلة انعكست على تصرفات الشخصيات أكثر مما انعكست على علاقاتهم مع بعضهم بعضاً. > غير أن هذا المناخ الذي رسمه هنري جيمس بدقة، وحاول من خلاله إقامة التعارض بين أخلاقيات ثلاث (تستند لدى الكاتب، لا شعورياً، الى فرز طبقي واضح): أخلاقية ديزي ميلر المعبرة عن نفسها وهي مماثلة لرغبات مكتومة لدى حبيبها الأميركي: وأخلاقية الارستقراطية الاميركية الصارمة في طهرانيتها، وأخيراً الأخلاقية الأوروبية المحكومة من خلال المناخ الذي فيه تجري أحداث الرواية. والحقيقة ان ديزي ميلر، الشخصية المحورية في الرواية، انما تخدم هنا بوصفها النقطة التي عندها تقاطع المسألة الاخلاقية في العلاقات الاجتماعية بين اوروبا وأميركا. صحيح أن أميركا لا تحضر في الرواية على شاكلة الحضور الأوروبي الذي يبدو أكثر وضوحاً، غير أن ديزي تحمل أميركا في داخلها، ليس لأنها تتماهى مع أخلاقية العالم الجديد، بل بالتحديد لأنها تعيش رافضة قيم هذا العالم، ومن هنا مبارحتها إياه لعيش التجربة الأوروبية. غير أن مشكلتها الأساسية تكمن هنا في عدم الفهم المزدوج الذي تقابَل به: فهي من ناحية ستجد الأبواب الأوروبية موصدة دونها، فهي اذ نقلت معها الى أوروبا حريتها الداخلية واستقلاليتها، وقد عاشت هناك وراحت تتجول محاطة برفاق وأصدقاء يبجلونها، فتمادت في «جرأتها» و «وقاحتها» – بحب المجتمع الأوروبي المحافظ -، وجدت أوروبا هذه عاجزة عن فهم ما تحمله من قيم. ولقد انعكس هذا، حتى، على الشاب الذي أغرم بها وأحاطته هي بعنايتها دوناً عن الباقين. فهذا بدوره لم يفهمها، بل عاملها على اساس انه «يتحملها» و «يغفر لها» ما تقترفه لمجرد انه يحبها! وبالتالي راح يسامحها ظاهرياً، حتى حين كانت، على سبيل المثال، لا تتورع عن ان تستقبل في غرفتها، بكل براءة وصداقة، ذلك الشاب الآخر، غلوفانيلي، الذي يبدو بدوره ظاهرياً، متقبلاً لتصرفاتها، لكنه في الحقيقة لا يأبه إلا لثروتها فيلاحقها طمعاً بها. > سينتهي الأمر بعجز الجميع عن فهم ديزي او فهم حقيقة مشاعرها وتصرفاتها، إذ حتى ذلك الصديق المقرب منها أكثر من غيره والذي يحبها، في الأصل، حباً حقيقياً، ونتربورن، سيكف ذات لحظة عن الاعتقاد بأن تصرفاتها هي على البراءة التي تريد ان تؤكدها في كل لحظة. والحقيقة ان الكاتب، بدءاً من اللحظة التي فيها تفقد ديزي صدقيتها، حتى لدى ونتربورن، يخفف من الوقوف عند الأحداث التي تمر في الرواية، ليركز جلّ اهتمامه على دراسة سيكولوجية ديزي، مؤكداً – أي الكاتب – انه يكاد يكون الوحيد الذي يفهمها ويتعاطف معها. ولسيتبعه، في هذا، ونتربورن ولكن بعد ان يكون الأوان قد فات. فإذ تصاب ديزي بالحمى الرومانية، خلال ليلة تزور فيها الكوليزبوم مع جيوفانيللي، وتموت، يلتقي هذا الأخير بونتربورن عند قبر الشابة الراحلة ليؤكد له، بما لا يدع مجالاً للشك، على طهرها... إن ديزي كانت فقط مجرد صبية محبة للعيش وتبحث عن السعادة وعن التعاطف مع الآخرين... ومن هنا كانت ضحية لسوء فهم هؤلاء الآخرين لها. > صحيح ان «ديزي ميلر» لا يمكن اعتبارها من أهم روايات هنري جيمس (1843-1916)، غير انها بالتأكيد وكما أشرنا، واحدة من أكثر أعماله توضيحاً لأسلوبه الروائي والمضمون «الحضاري» الذي أراد دائماً أن يحمّله لأدبه. وهنري جيمس كان الابن الثاني، بعد ويليام، لعالم اللاهوت هنري جيمس الكبير – تمييزاً له عن مؤلفنا الذي أعطاه الأب اسمه نفسه -. وهو تلقى علومه في أوروبا وأميركا، ونشر أولى رواياته وهو في الحادية والعشرين، وأنتج خلال حياته الطويلة، التي أمضى معظمها في أوروبا، عشرات الروايات والقصص ومن أبرزهما «صورة سيدة» و «أهل بوسطن» و «ماذا تعرف ميزي» و «السفراء» و «جناحا اليمامة» و «الكأس الذهب».

مشاركة :