«البيت الآخر» لهنري جيمس: من الواقع المرعب إلى الكابوس

  • 12/5/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

كثير من عناصرها يشير الى أنها كان يمكن أن تكون مسرحية؛ من انقسامها الى ثلاثة أقسام متساوية الطول تبدو لمن يتمعن فيها أنها ثلاثة فصول مسرحية، الى لعبة المجيء والذهاب المتواصل للشخصيات، وصولاً الى امتلائها بالحوارات في شكل غير معهود تماماً في الفن الروائي بما في ذلك تلك الحوارات التي تروي لنا «أحداثاً» تقع خارج المكان على الشكل الذي يذكّر بما يحدث عادة في مسرحيات راسين، على سبيل المثال. كل شيء إذاً في رواية «البيت الآخر» للأميركي المتأورب هنري جيمس يشير الى أننا في صدد مسرحية، لكنها ليست مسرحية؛ أو على الأقل نصّ انتهى به الأمر الى ألا يكون مسرحية. ولعل ثمة تفسيراً منطقياً لهذا. فـ «البيت الآخر» كانت أول نص روائي كتبه جيمس بعد انتقاله من أميركا ليعيش في لندن ومن هنا، لئن كان قد رغب أول الأمر في ان يساهم في حركتها المسرحية كاتباً، تبدى له ذلك الاختيار الأول شديد الأميركية يشتغل أساساً على أبعاد سيكولوجية لم يعهدها المسرح الإنكليزي القائم على الحركة والتجابه بين الشخصيات، ففضّل ألا يخوض التحدي وأن يكتفي بتحويل «المسرحية» الى رواية مستفيداً من إرهاصات العلاقة التي ستقوم بين علم النفس والتحليل النفسي من جهة، وبين الأدب من ناحية ثانية، مستذكراً اشتغال أبيه وأخيه على ذينك العلمين. ومن هنا كانت «البيت الآخر» عملاً فريداً في مسيرته ككاتب رواية، وبداية موفقة لفرض حضوره الأوروبي كروائي يحمل في جعبته اشتغالاً على الأبعاد النفسية لن يلبث أن يزدهر في أوروبا. > كما أشرنا، تشتغل حبكة «البيت الآخر» على ما يدور داخل الشخصيات في شكل أساسي. وهي تنطلق من رغبة سرعان ما تتحول الى معضلة ومن ثم الى ما يشبه الجريمة فالأسر بالنسبة الى عدد من الشخصيات. غير أن هذا كله لا يبدو واضحاً ومتوقعاً منذ البداية حتى وإن لم نكن أمام عمل تشويقي أو بوليسي قد توحي السطور السابقة بوجوده، بل أمام ما لا يعدو أن يكون دراما عائلية فجائعية. فمنذ البداية لدينا هنا الأم والزوجة جوليا بريم التي وهي على فراش الموت صبية، تستحلف زوجها طوني ألا يقدم على الزواج من أية امرأة أخرى طالما أن ابنتهما إلفي هي على قيد الحياة، لأنها، كما تقول له، لا تريد لصغيرتها المحبوبة أن تعيش تحت رحمة زوجة أب قد تسيمها العذاب. يوافق الأب على ذلك- ولو مكرهاً كما سندرك بعد حين من موت جوليا-، وبالتالي يمتنع من الدنو من فكرة الزواج ثانية وقد أرعبته الفكرة في حد ذاتها. للوهلة الأولى تبدو الفكرة، على أي حال، منطقية لكنها سرعان ما تتحول بالتدريج الى محرك لسلسلة من الأحداث الدرامية الأليمة التي لم يردها أحد. أما محور الأحداث هذه المرة فلسوف تكون الحسناء روز، المغرمة في شكل متكتم، بطوني لكن أخشى ما تخشاه هو أن يقدم هذا الأخير على الحنث بيمينه الذي حلف به أمام جوليا، والاقتران بالحسناء الأخرى جين مارتي. والحال أن روز تمكنت من أن تحدس بوجود نوع من الانجذاب المتبادل بين طوني وجين حتى من قبل موت جوليا. وهنا ستحاول روز أن تدفع جين الى الزواج من شاب تقدم لها لكن هذه الأخيرة ترفض الفكرة، مفضّلة في أعماقها أن تنتظر ريثما «يبرأ» طوني من قسمه ويصبح قادراً على الاقتران بها. وهنا، إذ تجد روز أن الأمور بدأت تفلت من يدها، لا تجد أمامها إلا أن تلجأ الى خطة شريرة تمكنها، في الوقت نفسه من التخلص من جين كما من تمكين طوني من التخلص من وعده لزوجته الراحلة: تدفع إلفي الصغيرة الى الغرق وهي تعرف ان الاتهام بالإهمال سيوجّه الى جين بالنظر الى أن هذه كانت هي المسؤولة رسمياً عن رعاية الطفلة وبالتالي فإن موت هذه الأخيرة سيعتبر مقصوداً لكل الذين يعرفون ان إلفي كانت هي من يشكل عقبة في وجه سعادة جين بزواجها من طوني. > غير ان خطة روز لا تنطلي على أحد... حيث أن الجميع سرعان ما أدركوا أن جين ليست هي من دفع الصغيرة الى الغرق، وعلى هذا النحو لم يعد في وسع روز إلا أن تبتعد تاركة للزمن أن يضمد الجرح العميق الذي خلفته الحادثة في فؤادي طوني وجين، بخاصة ان تلك الحادثة، بدلاً من أن تفرق بينهما كما كانت روز تأمل، قربت بينهما في شكل صار من المنطقي لهما أن يتزوجاً في نهاية الأمر. > للوهلة الأولى ستبدو أحداث هذه الرواية، إذ نرويها هنا على هذه الشاكلة، متسارعة ومن غير الممكن لها أن تملأ الصفحات الأربعمئة التي تتألف منها، لكن الواقع يقول لنا غير ذلك وبالتحديد لأننا ههنا أمام رواية سيكولوجية تعتمد أساساً على ما يحدث داخل الشخصيات انطلاقاً من علاقة كل منها بالحدث. وكأن الكاتب جعل من نفسه بصّاصاً يمكنه أن يدخل جوانية الشخصيات ليقف مطولاً عند ما تفكر فيه وما تتخيله للقفزة المقبلة وللحسابات التي تجريها بينها وبين نفسه متخيّلة ردود الفعل التي يمكن أن تنجم عن كل خطوة. ولنضف الى هذا كيف ان الكاتب، من دون أن يصل في أي سطر من سطور الرواية، الى حدود الوعظ لدفع الشخصيات الى سلوك أسلم السبل، يقف من كل تفكير يعزوه الى اي شخصية من شخصياته، موقفاً محايداً متأملاً. فمن الواضح انه لا يبتغي هنا أن يعطي دروساً في الأخلاق أو يمكّن الشخصيات من حسن الاختيار بين الإمكانات المطروحة أمامها، بل يريد ان يسبر النوازع والأبعاد النفسية والدوافع التي تقف وراء كل تحرك أو قرار. ولن يفوتنا هنا مقدار ما في هذه الاختيارات التي يخوض المؤلف فيها من أبعاد مسرحية تكاد تقول لنا إن هنري جيمس، بمقدار تأثره فكرياً بأبيه وأخيه، يبدو، مسرحياً على الأقل، متأثراً إن لم يكن بتشيكوف والصراع الذي يعتمل داخل شخصياته، فعلى الأقل بهنريك إبسن وتعامله الجواني مع شخصياته تعاملاً يكاد بالنسبة الى الكاتب النرويجي الكبير، أن يكون سيكولوجياً خالصاً. > ولكن، في نهاية الأمر، لأن هنري جيمس آثر في نهاية المطاف ألا يكتب مسرحية بل رواية، لم يلحظ كثر انتماء هذه الرواية بالتحديد الى عوالم إبسن، بل ربطوها بعوالم الفرنسي مارسيل بروست معتبرين أن «البيت الآخر» في المجال الروائي كانت نوعاً من الإرهاص بالمسارات الجوانية التي اتخذها الفعل الروائي لدى مارسيل بروست كما لدى جيمس جويس ثم لاحقاً فرجينيا وولف. ومع هذا لم يقيّض لجيمس ان يُعترف به رائداً من رواد الأدب المرتبط بـ «تيار الوعي»، وذلك بالتحديد لأن هذه الرواية اعتبرت في حد ذاتها رواية ضعيفة مقارنة بأعمال هنري جيمس الأخرى، بل تحدث كثر عن «ضخامة الجريمة المرتكبة- دفع طفلة بريئة الى الغرق- مقابل الثمن الهزيل الذي سيكون للجريمة- زواج امرأة من أرمل مهما كان مبلغ حبها له». ورأى البعض ان أمراً كهذا كان يمكن أن يكون ممكناً في مسرح ميلودرامي، ومن كاتب عُهد منه هذا المستوى من التخريجات، أما من كاتب كان قد وطّد لنفسه مكانة أساسية في الأدب الواقعي الذي كان يزدهر بقوة بين العالمين الجديد- أميركا-، والقديم - أوروبا -، فأمر بدا، على الأقل غريباً. > مهما يكن من أمر، وحتى لو ان هذه الرواية حازت على قدر لا بأس به من الإعجاب، فإن النقاد الأكثر جدية والذين كانوا قد اعتادوا أن يخصوا روايات هنري جيمس (1843- 1916) بتقدير كبير وتوقفوا طويلاً عند أعمال كبيرة له مثل «صورة سيدة» و «البوسطنيات» وغيرها، رأوا ان هذا الكاتب المتحفظ عادة في رسم عواطف شخصياته محاولاً عقلنة ما قد يبدو متطرفاً منها، لم يبد موفقاً هذه المرة في رسمه العواطف التي راحت تبدو للقراء أشبه ما تكون بالمجانية، حيث، وكما قال واحد من نقاد جيمس الأكثر جدية: «قد يشعر قارئ هذه الرواية بوجود قدر كبير من القلق لكنه ليس من السهل عليه ان يشعر بوجود ما يكفي من الدراما»، مضيفاً: «أما الشخصيات فتبدو وكأنها تطوف في عالم الكوابيس لا في عالم الواقع المرعب».

مشاركة :