في أحدث حيلة لها لاستمالة الدول لأخذ جانب والتعهد بالولاء، نظمت الولايات المتحدة النسخة الثانية من ما يسمى "قمة من أجل الديمقراطية". وانتهى التجمع، من حيث الشكل أكثر منه من حيث الجوهر، كتكملة أخرى لا طائل من ورائها للاجتماع الأول في عام 2021، الذي شابته خلافات حول دوافع واشنطن ومؤهلاتها كدولة مضيفة، خاصة مع استمرار احتراق بيت الديمقراطية الخاص بها. وقبل يوم واحد فقط من افتتاح القمة، هاجمت مطلقة نار مدججة بالسلاح مدرسة في ولاية تينيسي الأمريكية وقتلت بالرصاص ستة أشخاص، من بينهم ثلاثة أطفال. وفي وقت سابق من هذا العام، كانت الانتخابات الماراثونية لرئيس مجلس النواب الأمريكي أيضا بمثابة تذكير دائم بكيفية توهان السياسيين الأمريكيين في الصراع الحزبي، مما يترك الكيان السياسي الأمريكي مختلا بشكل متزايد. يبدو أن النخب في الكابيتول هيل على خير ما يرام مع ترك مشاكل البلاد دون إصلاح والجروح دون التئام. وفي الوقت نفسه، فهي مشغولة بـ"التلاعب نفسيا بالديمقراطية" في جميع أنحاء العالم. مع ذلك، لتبرير أجنداتها لفرض تسلّطها على العالم، لا تدخر الولايات المتحدة جهدا لتصوير نفسها كحارس لقيم مشتركة مثل الديمقراطية والحرية، أو بكلماتها الخاصة، "مدينة على تلة". باختصار، تحتاج واشنطن إلى ذريعة مبررة لطموحاتها في الهيمنة. وينطوي ذلك على غسل دماغ منهجي لعامة الناس على مدى عقود من قبل النخب الرأسمالية والسياسية، وكذلك المجتمعات الصحفية والأكاديمية، والتي بلغت ذروتها في نظرية "نهاية التاريخ" التي طرحها فرانسيس فوكوياما في أعقاب الحرب الباردة. وقد أثبتت هذه الجهود الدؤوبة فعاليتها، لا سيما في تعريف الديمقراطية بأنها ليست أكثر من سياسات انتخابية تنافسية. وبموجب ما يسمى بـ"المعيار الذهبي"، فإن الحكومات التي تتبع طريق واشنطن يمكن الإشادة بها باعتبارها "ديمقراطية"، في حين أن تلك التي تعتزم اتخاذ مسارها الخاص سيتم وصفها بأنها "مهرطقة". بالطبع ، المعيار مرن، واعتماده انتقائي. لنفترض أنه حتى لو كان لدى بعض الدول نظام انتخابي على أساس صوت واحد لكل ناخب، ستظل الولايات المتحدة تعطي المواعظ حول القيم الديمقراطية بل حتى ستحيك المؤامرات لتغيير النظام في حال لم تستجب هذه الدول لأوامر واشنطن. غير أن سرد واشنطن حول الديمقراطية لا يخلص ولا يمكنه بالتأكيد أن يخلص المؤسسات الحاكمة في أمريكا ومجتمعها من جميع أنواع المشاكل العميقة الجذور، والتي تسبب النظام الرأسمالي في معظمها. والأهم من ذلك، فإن السرد نفسه يتفكك. ذات مرة، ادعى سلافوي زيزيك، وهو فيلسوف سلوفيني، أن "الزواج بين الديمقراطية والرأسمالية قد انتهى" في خطاب ألقاه في عام 2011 ضمن فعالية لحركة "احتلوا وول ستريت"، التي تظاهرت ضد التفاوت الاقتصادي والسياسة المالية في الولايات المتحدة. لقد كانت الولايات المتحدة تروج لنفسها على أنها النموذج العالمي للديمقراطية، لكن نظامها في الواقع "بلوتوقراطي وليس ديمقراطيا"، كما ذكر المعلق السياسي البريطاني كارلوس مارتينيز. في الواقع، المناقشات في الولايات المتحدة وحول العالم بشأن ما هي الديمقراطية الحقيقية آخذة في الازدياد بالفعل. ومن بين كل العوامل التي تعزز تلك المناقشات الهادفة إخفاقات الحوكمة في أمريكا نفسها.■
مشاركة :