فوجئت الأسواق النفطية أمس بإعلان إيران خفض أسعار بيع الخام في الأسواق الآسيوية بخصومات تعد الأكبر منذ عام 2008، وهو ما اعتبرته السوق بمنزلة اندلاع حرب أسعار، خاصة مع النفط السعودي الذي يتمتع بمراكز ثقل كبيرة في آسيا، حيث سبق للرياض أن أعلنت أخيرا تثبيت إمداداتها إلى تلك الأسواق خلال الشهر المقبل مع رفع الأسعار. وأوضح لـ "الاقتصادية"، رينيه تسوانبول مدير شركة "طاقة" الإماراتية في هولندا، أن إعلان إيران تخفيض أسعار نفطها إلى الأسواق الآسيوية إجراء متوقع في إطار الرغبة المحمومة لدى طهران في القفز بمعدلات الصادرات النفطية واستعادة حصصها السوقية التي فقدتها مع بدء فرض العقوبات الاقتصادية عليها. وأشار تسوانبول إلى أن حجم الخصم على النفط الإيراني كبير وربما يكون الأكبر منذ نحو ثماني سنوات وهو ما يعكس اشتداد حالة المنافسة السوقية الحادة بين كبار المنتجين، في ضوء تنامي تخمة المعروض والتركيز على الأسواق الآسيوية باعتبارها أبرز مكونات منظومة الطلب العالمي على النفط الخام. وأضاف تسوانبول أن "الآمال في توافق المنتجين على خفض الإنتاج بعد هذا الإجراء باتت منعدمة في ظل التسابق على إزاحة المنتجين بعضهم البعض في الأسواق الدولية"، مشيرا إلى أن هذا الأمر ليس في مصلحة الاقتصاد الدولي بشكل عام وبالتالي لن يحقق الاستقرار المنشود في الأسواق وربما يقود إلى مزيد من التراجعات الحادة في الأسعار. من جهته، أكد لـ "الاقتصادية"، الدكتور آمبرجيو فاسولي مدير مركز دراسات الطاقة في مدينة لوزان السويسرية، أن إيران أعلنت بالفعل "حرب أسعار" بهذا القرار وأن هذا الإجراء موجه في الأساس إلى النفط السعودي المتوسط الذي يتمتع بمعدلات طلب عالية في الأسواق الآسيوية، وبالطبع لا يمكن استبعاد التوتر السياسي من خلفيات الصراع الاقتصادي الحالي. وأشار فاسولي إلى أن استراتيجية طهران الحالية ستلحق أضرارا بالغة بسوق النفط وبمصالح بقية المنتجين في "أوبك" وخارجها، موضحا أن خفض الأسعار أصبح الوسيلة الوحيدة أمام إيران لجعل إنتاجها أكثر جاذبية للمستهلكين وحتى تصل بسرعة إلى خططها الزمنية لزيادة الصادرات التي بدأت بنحو 500 ألف برميل يوميا. وأضاف فاسولي أن "النفط السعودي ما زال يتمتع بتفوق ملحوظ في الأسواق الآسيوية وبمعدلات طلب مرتفعة وهو ما جعل السعودية ترفع أسعار البيع الأسبوع الماضي عشرة سنتات، لكن إقدام إيران على خصم يتجاوز 20 سنتا سيجر المنتجين إلى حرب أسعار وتخفيضات متتالية ليست من مصلحة الصناعة وستؤثر سلبا في الاستثمارات". وجرت العادة أن تحدد إيران الأسعار الشهرية لشحناتها النفطية إلى عملائها في آسيا أكبر أسواقها بفرق ثابت عن أسعار الخام السعودي على أساس فصلي، وفي الربع الأول من 2016 جرى تحديد الخصم عند عشرة سنتات دون الخام العربي المتوسط، لكن إيران عرضت على مشتري الخام الإيراني الثقيل خصما قدره 20 سنتا دون سعر الخام العربي المتوسط السعودي - وهو خام من نفس الجودة - في شحنات آذار (مارس). وأبقت إيران على سعر الخام عند خصم قدره 2.60 دولار للبرميل دون متوسط سعر خامات عمان ودبي على منصة بلاتس. جاء ذلك بعدما رفعت السعودية الأسبوع الماضي سعر الخام العربي المتوسط عشرة سنتات إلى متوسط سعر خامي عمان ودبي ناقصا 2.40 دولار للبرميل. وقالت مصادر مطلعة، "إن وزير النفط الفنزويلي اقترح على "أوبك" والمنتجين المستقلين "تجميد" الإنتاج عند المستويات الحالية، إلا أنه من المستبعد أن توافق إيران على تجميد إنتاج النفط". وأوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور بيرنارد ماير أستاذ الجولوجيا في جامعة كاليجاري في كندا، أن الإنتاج الأمريكي يواجه صعوبات كبيرة في ضوء ظروف السوق الحالية، مشيرا إلى أن 150 شركة نفطية أمريكية قاربت على الإفلاس بسبب هبوط الأسعار إلى ما دون 30 دولارا للبرميل مع تراجع الأمال في تعافي السوق سريعا. وأشار ماير إلى أن كثيرا من الشركات النفطية الأمريكية تعاني أزمة مالية طاحنة تتمثل في تراجع الإيرادات وارتفاع المديونية وعدم نجاح التركيز على العقود الأجلة للنفط، موضحا أن الصناعة في الولايات المتحدة وكندا قد تشهد حالة من الاضطرابات مثلما حدث في التسعينيات من القرن الماضي علاوة على احتمال زيادة عمليات الاندماج بين الشركات لتكوين كيانات أكبر تصبح أكثر قدرة على مواجهة الأزمة أو استحواذات تقود بها المصارف الدائنة للشركات المتعثرة. ويقول لـ "الاقتصادية"، رودولف هوبر مختص شؤون الطاقة في النمسا، "إن إيران أعلنت قبل يوم واحد استعدادها للتعاون مع السعودية من أجل استعادة الاستقرار في السوق والمساهمة في إنعاشها من جديد، وهذا التصريح كان إيجابيا على نحو كبير وقاد أسعار النفط الخام إلى الارتفاع، لكننا فوجئنا في اليوم التالى بخفض أسعار بيع النفط الإيرانى إلى أسواق آسيا على نحو كبير بهدف الإضرار بالنفط السعودي المتوسط الذي تعتمد عليه أغلب دول الاستهلاك في آسيا". وأشار هوبر إلى أن تبدل مواقف المنتجين أو تناقض الأقوال مع الأفعال ليس في مصلحة السوق النفطية لأننا نعيش بالفعل حالة من التنافس الحاد على الحصص السوقية ووصل بعد الإجراء الإيرانى إلى ما يمكن توصيفه بأنه حرب أسعار. ودعا هوبر المنتجين إذا كانوا جادين في إنقاذ السوق من الانهيارات السعرية إلى اتخاذ إجراءات عملية وسريعة تدعم الأسعار خاصة عملية خفض الإنتاج التي يجب أن تطال كل المنتجين دون استثناء أحد، لأن استقرار السوق والحفاظ على أسعار عادلة سيصب في النهاية في مصلحة المنتجين ومصلحة الاقتصاد الدولي. من جهة أخرى، مالت أسعار النفط الخام في الأسواق الدولية أمس إلى الانخفاض في إطار مسلسل عدم الاستقرار الذي يهيمن على الأسواق وهو ما يقود إلى تقلبات سعرية حادة حيث تأثرت السوق بمخاوف متنامية وأجواء سلبية ناجمة عن الأداء الهزيل للاقتصاد العالمي في ضوء وجود توقعات واسعة بتقلص النمو واتساع نطاق الركود والانكماش الاقتصادي. وعزز حالة الانخفاض السعري حدوث ارتفاع قياسي في مستويات المخزونات النفطية الأمريكية فيما لم تظهر أي بوادر جادة من المنتجين من أجل العمل على السيطرة على حالة تخمة المعروض التي تتجه بقوة نحو التزايد والنمو المستمر وتقوض جهود تعافي الأسعار من جديد، وسط توقعات صادرة من بنك جولدمان ساكس تشير إلى بقاء الأسعار منخفضة ومتقلبة حتى النصف الثاني من العام. وتراجع النفط الخام الأمريكي في السوق الأوروبية مواصلا خسائره لليوم السادس على التوالي، مسجلا أدنى مستوى منذ عام 2003، وتراجعت عقود خام برنت قرب أدنى مستوى في أسبوعين، مع استمرار المخاوف بشأن ركود الاقتصاد العالمي وتأثيره السلبي في مستويات الطلب في الوقت الذي تزداد فيه تخمة المعروض في الأسواق. وبحسب "رويترز" هبط خام القياس العالمي مزيج برنت في العقود الآجلة 51 سنتا إلى 30.33 دولار للبرميل، وتراجع الخام الأمريكي إلى مستوى 26.70 دولار للبرميل من مستوى الافتتاح 27.26 دولار وسجل أعلى مستوى 27.46 دولار وأدنى مستوى 26.68 دولار الأدنى منذ عام 2003. وقال بيارني شيلدروب كبير محللي السلع الأولية لدى "إس.إي.بي في" أوسلو، "إننا نشهد تراجعا في ظل عوامل أساسية ضعيفة"، مضيفاً أن "هناك حرب أسعار على الحصة الآسيوية وتوجد مخاوف من وصول طاقة التخزين إلى مستوياتها القصوى". وأضاف شيلدروب أن "هبوط أسعار النفط يأتي أيضا في إطار إحجام عام عن الأصول العالية المخاطر في الأسواق العالمية، حيث يتهافت المستثمرون على الملاذات الآمنة مثل الذهب والين والسندات العالية الفائدة". وفقد الخام الأمريكي "تسليم مارس" عند تسوية أول أمس 3.5 في المائة، في خامس خسارة يومية على التوالي، على الرغم من انخفاض غير متوقع لمخزونات الخام في الولايات المتحدة، وحققت عقود برنت ارتفاعا بنسبة 0.5 في المائة ضمن عمليات الارتداد من أدنى مستوى في أسبوعين 30.27 دولار للبرميل. وأظهرت بيانات من إدارة معلومات الطاقة الأمريكية ارتفاع المخزونات في نقطة تسليم العقود الآجلة في كاشينج في أوكلاهوما إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق بما يقل قليلا عن 65 مليون برميل. وذكرت الوكالة الأمريكية أن هناك انخفاضاً في مخزونات الخام بمقدار 0.8 مليون برميل للأسبوع المنتهي 5 شباط (فبراير)، إلى إجمالي 502.1 مليون برميل، في أول انخفاض أسبوعي منذ منتصف كانون الثاني (يناير)، على عكس التوقعات ارتفاع بمقدار 3.1 مليون برميل. وزادت الاضطرابات في الأسواق المالية مع تكثيف عمليات بيع الأصول عالية المخاطر وعلى رأسها الأسهم والسندات، عاكسة العزوف الواسع للمستثمرين عن المخاطرة بفعل تزايد المخاوف بشأن ركود الاقتصاد العالمي وسط تباطؤ الاقتصاد الصيني وضعف مسار نمو الاقتصاد الأمريكي وتراجع الاقتصادات الناشئة.
مشاركة :