التسامح كفكرة وُلد كرد فعل على التعصب والصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي أنهكت أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكريها وفلاسفتها ومصلحيها الدينيين إلا البحث عن حل لهذه المعضلة الدينية بالدعوة إلى التسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد الديني.. ناقش بعض المفكرين العرب مفهوم التسامح من زوايا متعددة ومختلفة؛ ففي محاضرة ألقاها الدكتور محمد أركون في ندوة قرطاج بتونس تحدث فيها عن مسألة التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي ليخلص من ذلك إلى التأكيد على أن التسامح كمفهوم لم يعرفه السياق الإسلامي تاريخيًا.. وإن كان يخالفه الرأي الدكتور محمد عابد الجابري إذ يرى أن للتسامح مرجعية إسلامية يستند عليها. وكان المفكر إبراهيم أعراب قد تطرق إلى التسامح في كتابه (الإسلام السياسي والحداثة) مفرداً له محورًا خاصاً في آخر الكتاب تحت عنوان (سؤال التسامح في ثقافتنا بين الخصوصية والكونية) مؤسسا قراءته للتسامح على القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20 ديسمبر 1993م والذي اعتبر إعلان سنة 1995م سنة عالمية للتسامح وعهدت الجمعية لمنظمة اليونسكو بإعداد وثيقة إعلان مبادئ حول التسامح وإقامة لقاءات ومؤتمرات وندوات تحض على التسامح مؤسسة على مبادئ حقوق الإنسان العالمية. ويتبين من وثيقة إعلان مبادئ التسامح محاولة ربطه بحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم، مما جعل التسامح حقًا ينبغي الدفاع عنه وحمايته قانونيًا ككل حقوق الإنسان الأخرى، كما أن وثيقة الإعلان ربطت ما بين التسامح والسلم على أساس أن هذا الأخير لن يترسخ كثقافة إلا بوجود الأول، وكما قال المدير العام لليونسكو فيدريكو مايور "التسامح شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو لازم لكل ثقافة للسلام". لكن إذا كان التفكير الراهن في التسامح ينحو هذا المنحنى، فهذا لا يعني بالضرورة أن التسامح كان دائمًا بهذا المعنى إذ عرف في مساره كفكرة وكتقليد تحولات انتقلت به من معنى إلى آخر بدءًا من ولادته في مواطنه الأصلي في أوروبا إلى أن أصبح ما هو عليه الآن. فهو ظاهرة تاريخية بشرية، مما جعل مساءلته عن أصوله وشروط ميلاده جزءًا من التفكير النقدي فيه، وذلك قبل التساؤل عن مكانته ومدى حضوره في الثقافات الأخرى غير تلك التي عرفت ولادته إلا أن أصل التسامح كفكرة ومنهج يعود إلى القرن 16 ميلادي إبان الحروب والصراعات الدينية التي عرفتها أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهى الكاثوليك بالتسامح مع البروتستانت بشكل متبادل ثم أصبح التسامح يمارس اتجاه كل المعتقدات والديانات. ففي القرن 19م انتشر التسامح ليشمل مجال الفكر وحرية التعبير ولم يكن ليحدث هذا التحول والانتقال إلا بعد حروب وصراعات دينية طويلة عاشتها دول أوروبا في ألمانيا وهولندا وإنجلترا وإسبانيا وفرنسا. وكان الكاثوليك خلال هذه الحقبة المظلمة يرفضون التسامح إزاء الاجتهادات الدينية ويعتبرون التسامح بدعة، ولذا كتب جان لوك عام 1689م رسائله في التسامح ضمنها موقفه الداعي إلى الفصل بين الدولة والدين أو ما أسماه الفصل بين مهام الحكم المدني والديني ومن ثم دعا إلى ضرورة تأسيس حدود فاصلة بينهما، وهذا يعني أن التسامح كفكرة ولد كرد فعل على التعصب والصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي أنهكت أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكريها وفلاسفتها ومصلحيها الدينيين إلا البحث عن حل لهذه المعضلة الدينية بالدعوة إلى التسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف وحرية الاعتقاد الديني. وبهذا يكون التسامح في هذا السياق التاريخي وليد حركة الإصلاح الديني الأوروبي ونشأ ليعبر عن تغيير في الذهنية ناتج عن علاقة جديدة، وهي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع. لقد حدث انشقاق داخل الدين الواحد ثم حدث تجاوزه بالاعتراف بالحق في الاختلاف في الاعتقاد ثم في حرية التفكير بوجه العام. لكن ما الذي يجعل مفهوم التسامح لا يبقى متعلقاً بالحقل الديني وأصبح مقترنًا بحرية التفكير بوجه عام؟ تم ذلك في أواخر القرن 18م وتحديدًا في القرن 19م وذلك مع بروز ملامح الحداثة الأوروبية ومظاهرها، وبفعل توفر عدة شروط ثقافية وسياسية منها على الخصوص بوجود دولة القانون والمجتمع المدني والعلمانية وثقافة فلسفية ونقدية وقانونية، وكان هذا كله نتاج فلسفة فكر التنوير الذي بدأت إطلالته منذ القرن 18م وما حملته معها من قيم ومفاهيم وأفكار جديدة حول العقل والفردانية والحرية والمساواة والحقوق الطبيعية وفكرة التقدم والفصل بين الديني والدنيوي، عند ذلك انشغل فكر التنوير بالتسامح كفضيلة أخلاقية فردية تخص مجال حرية الرأي والفكر والتعبير بصفة عامة وخاصة ما كتبه فولتير الذي يعتبره الكثيرون فيلسوف التسامح عندما يقول "كلنا ضعفاء وميالون إلى الخطأ لذا دعونا نتسامح مع بعضنا البعض بشكل متبادل". وقد وجد التسامح بهذا المعنى أرضيته وجذوره في الفكر الليبرالي ومفاهيمه الإنسانية كمفهوم الحرية الذاتية الذي يشمل حرية الرأي كما عند جون ستيوارت ميل. والسؤال بعد هذا هو: كيف تعامل الخطاب العربي الإسلامي الحديث المعاصر مع فكرة التسامح؟ وما هي الأسئلة التي طرحها منتهجو هذا الخطاب وهم يفكرون في التسامح؟ وبالتالي ما الإشكالية المركزية التي انشغلوا بها ضمن هذا الموضوع؟ علما بأن الخطاب العربي الحديث عمومًا عمد إلى البحث عن كل مفهوم من المفاهيم الليبرالية الأوروبية عما يوازيه أو يقاربه في الفكر العربي، إذا فما هو المفهوم أو المفاهيم التي اعتمدوها للمطابقة بينها وبين مفهوم التسامح؟ وهذا يتطلب قراءة أخرى.
مشاركة :