ستتواصل التقلبات في التوقعات حول نمو الاقتصاد العالمي للعامين الجاري والمقبل على أقل تقدير. فالصورة العامة لا تزال غير واضحة وقاتمة، وهناك تداعيات لأزمات سابقة موجودة على الساحة، فضلا عن التوترات التي تنشرها الخلافات (بل المواجهات) الجيوسياسية، بما في ذلك الحرب الدائرة في أوكرانيا، الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. هناك كثير من الأسباب التي تجعل المؤسسات الاقتصادية الدولية المعنية، تعيد تقييم الأوضاع على المديين القصير والمتوسط. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن الموجة التضخمية المستمرة لا تزال حاضرة وذات تأثير قوي، وإن تراجعت بعض الشيء في أغلبية الدول، إلا أنها تبقى موجودة بمستويات أعلى من الحد الأقصى الذي وضعته الحكومات للتضخم عند 2 في المائة. أي أن الغيوم لا تزال تحيط بالمشهد الاقتصادي العام، مع استمرار حالة عدم اليقين. التعديل الإيجابي الأخير للبنك الدولي بشأن النمو العالمي، يعطي قوة دفع إلى الأمام، لكن ليس على المدى المتوسط، حيث يشكك البنك من مغبة استمرار بعض المؤثرات السلبية حتى منتصف العقد المقبل. النمو لهذا العام (وفق البنك الدولي) سيسجل 2 في المائة، بينما كان قد توقع في مطلع العام الحالي نموا لا يزيد على 1.7 في المائة. إلا أن هناك مخاوف متصاعدة على صعيد تفاقم أزمة الديون في الدول النامية على وجه الخصوص، وأن تنتشر هذه الأزمة بصورة أقل حدة خاصة في أغلبية الدول المتقدمة، التي قفز حجم ديونها السيادية فوق ناتجها المحلي الإجمالي. وتضغط أسعار الفائدة المرتفعة حول العالم، ولا سيما الأمريكية منها، على الدول النامية من جهة الديون، لأن أغلبها مقومة بالعملة الأمريكية، ما يرفع تكاليف خدمتها في وقت لا تتوافر فيه عناصر قوية للنمو. وستبقى هذه الأزمة موجودة حتى يتم التفاهم لرفع حدتها والتقليل من خطورتها. ما يبرر نداء صندوق النقد الدولي أخيرا، والموجه إلى الدول الدائنة بأن تعيد النظر في مسألة الديون، وتخفف شروطها، على الأقل في هذه المرحلة. وفي كل الأحوال، كل هذا يبقى مرتبطا بصورة أو بأخرى بمسار النمو العالمي كله. فالتوقعات الجيدة الأخيرة، تعود أساسا إلى إمكانية أن يحقق الاقتصاد الصيني هذا العام مستويات نمو معقولة عند حدود 5.1 في المائة، وإن كان هذا المستوى أقل من النمو الذي سجلته بكين قبل جائحة كورونا والموجة التضخمية العالمية الحالية. ولذلك، ستظل الصين المحرك الأول للنمو العالمي، مقابل مستويات نمو متواضعة في الاقتصادات المتقدمة. فتوقعات النمو على الساحة الأمريكية لا تزيد على 1.4 في المائة حتى الآن، وهناك مؤشرات تدل على إمكانية أن يدخل أكبر اقتصاد في العالم دائرة الركود قبل نهاية العام الجاري. بالطبع تبقى المخاطر حاضرة بشأن حراك الاقتصاد العالمي كله، سواء من الحرب في أوروبا، أو الرفع المتواصل للفائدة في مواجهة التضخم، وتبعات جائحة كورونا التي ستتواصل لعدة أعوام. وإذا ما أضفنا الاضطرابات الأخيرة في القطاع المصرفي بسبب تعثر بنوك أمريكية وأخرى سويسرية، فإن المخاوف تزداد. فالبنك الدولي، يعتقد بأن تفاقم أزمة هذا القطاع، ستؤثر سلبا في نشاط النمو المأمول في النصف الثاني من العام الحالي. صحيح أن السلطات الأمريكية والسويسرية تمكنت من احتواء الأزمة المصرفية الأخيرة، وحصرها ضمن نطاق حدود ضيقة، إلا أن المخاطر من انفلات الأزمة مجددا تبقى موجودة. وتلخيصا لكل هذا سيكون النمو الاقتصادي العالمي مرهونا بالمشكلات الراهنة، والتفاعلات الأخرى، وستكون هناك تعديلات تراوح بين الإيجابية والسلبية. فالرهان على النمو في الصين يبقى المحور الأساس الدافع لنمو يحتاج إليه العالم الآن أكثر من أي وقت مضى. سيظل النمو ضعيفا مقارنة بـالمعايير التاريخية لمؤشراته، إذ تؤثر محاولات كبح التضخم والحرب الروسية – الأوكرانية في النشاط الاقتصادي.
مشاركة :