إن سرعة تشديد السياسات النقدية بعد أعوام من انخفاض أسعار الفائدة تكشف عددا من الاختلالات فقد أصبحت الرقابة المصرفية أكثر قوة في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وهو ما يرجع جزئيا إلى إلزام البنوك بحيازة رصيد أكبر من رأس المال والأصول السائلة وإجراء اختبارات القدرة على تحمل الضغوط، للمساعدة على ضمان صلابتها في مواجهة الصدمات المعاكسة. غير أن النظام المالي العالمي يواجه ضغوطا هائلة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة الذي أدى إلى زعزعة الثقة بعدد من المؤسسات. فسقوط بنك سيليكون فالي وبنك سيجنتشر في الولايات المتحدة ـ نتيجة هروب المودعين غير المؤمن عليهم بعدما أدركوا حجم الخسائر الضخمة في محافظ الأوراق المالية للبنكين نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة ـ والاستحواذ على بنك كريدي سويس في سويسرا من جانب منافسه بنك الاتحاد السويسري بدعم من الحكومة، أسهما في زعزعة ثقة الأسواق وأسفرا عن استجابات كبيرة وعاجلة من جانب السلطات. ويشير عددنا الأخير من تقرير الاستقرار المالي العالمي إلى تصاعد المخاطر المحيطة بمؤسسات الوساطة المالية المصرفية وغير المصرفية في ظل الزيادة السريعة في أسعار الفائدة لاحتواء التضخم. ويتضح من التجارب التاريخية أن الزيادات الحادة في أسعار الفائدة من جانب البنوك المركزية في الأغلب ما تنشأ عنها ضغوط كاشفة لاختلالات النظام المالي. وانطلاقا من دور الصندوق في تقييم الاستقرار المالي العالمي، أشار إلى عدد من الفجوات في آليات الرقابة والتنظيم والتسوية في المؤسسات المالية. وحذرت الأعداد السابقة من تقرير الاستقرار المالي العالمي من الضغوط التي تواجه مؤسسات الوساطة المالية المصرفية وغير المصرفية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة. وبشأن الأوضاع المغايرة لـ2008، فإنه بينما أدت الاضطرابات المصرفية إلى تفاقم المخاطر المهددة للاستقرار المالي، تختلف أسبابها اختلافا جذريا عن أسباب الأزمة المالية العالمية. فقبل 2008، افتقرت معظم البنوك إلى رأس المال الكافي بمقاييس اليوم، وكانت حيازاتها من الأصول السائلة أقل كثيرا، كما كانت أكثر انكشافا بكثير لمخاطر الائتمان. وعلاوة على ذلك، شهد النظام المالي الأوسع آنذاك تحولات حادة في المخاطر المرتبطة بآجال الاستحقاق والائتمان، وازداد تعقيد الأدوات المالية، واعتمد تمويل معظم الأصول عالية المخاطر على قروض قصيرة الأجل. وسرعان ما انتشرت الاضطرابات التي بدأت في بعض البنوك إلى الشركات المالية غير المصرفية ومؤسسات أخرى من خلال مجموعة من الروابط. لكن الاضطرابات الأخيرة مختلفة. فالجهاز المصرفي لديه رصيد أكبر من رأس المال والتمويل للتغلب على الصدمات المعاكسة، كما تمت تصفية الكيانات خارج الميزانيات العمومية، وجرت السيطرة على مخاطر الائتمان من خلال فرض قواعد تنظيمية أكثر صرامة في أعقاب الأزمة. أما تلك الاضطرابات، فهي نتيجة مزيج الارتفاع الحاد والسريع في أسعار الفائدة والنمو السريع لعدد من المؤسسات المالية التي لم تكن مستعدة لهذا الارتفاع. وفي الوقت نفسه، أدركنا أيضا أن الاضطرابات في المؤسسات الأصغر حجما من شأنها زعزعة ثقة الأسواق المالية الأوسع نطاقا، ولا سيما في ظل الارتفاع المزمن في مستويات التضخم وما ينشأ عنه من خسائر في الأصول المصرفية. ولذلك فإن الاضطرابات الراهنة أشبه بأزمة المدخرات والقروض في الثمانينيات والأحداث التي سبقت سقوط بنك كونتيننتال إلينويContinental Illinois National Bank and Trust Co في (1984) وهو السقوط الأكبر في التاريخ الأمريكي آنذاك. وكانت هذه المؤسسات أقل رسملة، كما عانت عدم استقرار الودائع.. يتبع.
مشاركة :