ثلاث مبادرات، أطلقتها الإمارات نحو الداخل الوطني، وباتجاه تشكيل وعي إنساني أكثر نضجاً وانفتاحاً وعقلانية، استدعت في هذه المبادرات آليات عمل مختلفة، لأزمنة متغيرة، ولمناخات اشتعلت فيها بؤر النار والغلو والتطرف، ونفي الآخر وكراهيته. مبادرات ثلاث تتكامل، تلامس العصر، وتنخرط في نتاجه ومعارفه، وترتقي بجيل المستقبل، وتسلحه بالقراءة الجادة النافعة، واكتساب الرؤية النقدية، وبناء ذاته الشبابية المتماسكة، وتشحنه بقوة مضافة من ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر المختلف. مبادرات عام القراءة وثقافة التسامح واستدعاء طاقات وحضور الشباب في الحكومة.. هي دفاعات باسلة عن كل ما أنجزه هذا الوطن النافع لأهله، ولغير أهله من الإنسانية، وهي مفاتيح ناجعة، لأقفال عنيدة، وبراءة من الإحباط والتيئيس والترويع المقرر على هذا الجيل، وطريق سالك نحو الصعود إلى روح السعادة. حلمنا في مبادرة عام القراءة، أن تتجذر القراءة كعادة في مجتمعنا، وكحاجة روحية وعقلية، وإذا ما أصبحت عادة بين الشباب، فإنها تضفي على أي تطوير مجتمعي، صفة الاستمرارية الاجتماعية وقوتها، وتصير لها صفة الثبات مع مرور الزمن، فتصبح من التقاليد الاجتماعية والثقافية، وطقساً من الطقوس الشعبية، نحتفل فيه كل عام، مثل عيد العمال في أول شهر مايو/أيار، والألعاب الأولمبية، وتقليد تحية العلم في بعض الدول.. إلخ. ونحن نتحدث عن القراءة في محافلنا ومنتدياتنا، نسأل أنفسنا عن مدى الحضور الفعلي للثقافة والفنون في حياة أبنائنا في المدارس والجامعات؟ وعن عدد الكتب التي يقرأها المواطن والمواطنة سنوياً، أو حتى عدد الساعات التي نخصصها للقراءة شهرياً؟ في عام القراءة، علينا أن نبحث، علمياً وميدانياً، عن أسباب عزوف شبابنا عن القراءة، وعن أثر ذلك في تهميش اللغة العربية. وقد خبرت في حياتي العملية، شباباً من خريجي جامعات وطنية، لا يستطيع صياغة جملة مفيدة، أو كتابة بضع جمل عن تاريخ الإمارات، وينطبق ذلك على ضعف مماثل باللغة الإنجليزية. ولم أستغرب حقيقة مفجعة، مفادها أن كل ثمانين عربياً يقرأون كتاباً واحداً سنوياً، في حين أن الأوروبي يقرأ خمسة وثلاثين كتاباً سنوياً، وأذكر أن رئيساً لوزراء دولة عربية، قال أثناء محاضرة له في أبوظبي، قبل عقدين من الزمان، إنه لم يقرأ كتاباً واحداً بعد تخرجه في الجامعة. معللاً ذلك بانشغاله في السياسة وشؤون الحكم. من ناحية أخرى، تطرح علينا مسألة القراءة.. أسئلة أخرى جوهرية، ومنها على سبيل المثال: ماذا سيقرأ هذا الجيل من الكتب، التي تأسر خياله، وتنمي مداركه ومعارفه، في الرواية والفكر والمسرح والشعر والثقافة السياسية والعلوم والأخلاق والتربية.. إلخ، وكيف نعلي من شأن الثقافة، ونجعل من صانعيها نجوماً في المجتمع، ونموذجاً للاقتداء والتمثل، على غرار نجوم كرة القدم، والسينما والتلفزة، ورجال الأعمال، وهي النماذج الموضة، في هذه الأزمنة؟ وكيف نرعى مبدعين وكتاباً تنويريين، ونسوق نتاجهم داخل أروقة المدرسة، وقاعات الدرس في الجامعات والمنتديات، في مكتبات بيوتنا؟ أحلم برؤية شاب أو شابة، يجلس على شاطئ الجميرة أو بحيرة خالد أو شاطئ أبوظبي، أو في مقهى، وهو يمسك بين يديه كتاباً يقرأه، وأحلم بسوق للكتب المستعملة في مراكز التسوق، تذكرني بسور الأزبكية بالقاهرة، حينما كان جيلنا يتلكأ أمام رفوف الكتب، كما يقول إمبيرتو إيكو. للقراءة سلطان وقوة كامنة، ونحمده تعالى حينما تعلن الإمارات أنها لا تخشى القراءة. **** وتغمر الشباب النشوة والفرح، أمام مبادرة تمكين الشباب واستدعاء طاقاتهم وأحلامهم وطموحاتهم وهمومهم وقلقهم. الشباب، هم الطاقة الحيوية في أي مجتمع، ورافعة لنهوضها وتنميتها، والاهتمام بهم، هو اهتمام بالمستقبل، وبخاصة أنهم يشكلون أكثر من نصف المجتمع. ومن المهم، أن يبدأ التمكين، منذ سن مبكرة، في البيت والمدرسة، من خلال التنشئة الاجتماعية، وهي التنشئة التي تشكل شخصية الشباب في المستقبل، وتكفل لهم الاندماج الآمن والمؤثر في مجتمعهم، وتمكنهم من الانسجام مع قيمه الإيجابية، والتفاعل مع العصر. لا يستقيم التمكين في الكبر، إذا كان البناء في الصغر، هشاً أو مضطرباً، وبتعليم تلقيني، لا يعرف التفكير النقدي، ولا يكسب الشباب قيم الإبداع والابتكار وطرح الأسئلة، وقيم العمل وأخلاقياته، ومنظومات أخلاقية ومرجعيات معرفية وجمالية، وقيم التسامح والحوار، والثقة بالنفس، وبناء شخصية متوازنة، وبنية نفسية وجسدية سليمة، وإنضاج عقل نقدي قادر على التحليل وحل المشكلات. لقد حدث تغير اجتماعي هائل ومتسارع، في مجتمعاتنا العربية في إقليم الخليج والجزيرة العربية، وتعرضت فيه منظومة القيم التقليدية للعديد من التحولات، في مناخ عام من الرفاه المادي، وفي ظل إفرازات عميقة لثورة المعلومات والاتصال، وعولمة ثقافية جذابة، وذات سطوة مؤثرة، وانعكس كل ذلك على الشباب، ومسلكياتهم وأنماط حياتهم، وطرائق تفكيرهم، وهي تأثيرات متوقعة، بعض شبابنا عجز عن التكيف معها، فهاجر إلى حالات من الاغتراب، والبعض الآخر أسرف في أنماط سلوك سلبي، سادت فيه المظهرية على الجوهر، وطغت نزعة الاستهلاك، وفرصة الأخذ لا العطاء، والاعتماد على الغير، وتشوشت لديه قيم العمل واحترام الوقت، واتسعت الفجوة بين الأجيال، فضلاً عن قلق في الهوية، وحيرة ما بين القيم الموروثة، وقيم الحداثة.. إلخ. إشكاليات الشباب، مسألة مهمة، لا تستطيع مقالة صغيرة الإحاطة بها، لكن من الضروري طرحها للبحث والتحليل على كل المستويات، بعض عناصرها ينسحب على معظم الشباب العربي في الوطن العربي، كإشكاليات البطالة، وإشكاليات تعليم الشباب، ودور العولمة الثقافية في صناعة الرموز والمتخيلات لدى الشباب، والصراع بين القيم الموروثة، والقيم المعاصرة، وغيرها. لكن هناك عناصر إشكالية ذات خصوصية إماراتية وخليجية عربية، على رأسها قلق الهوية والقيم، وكيفية توجيه الشباب نحو نمط مختلف من الحياة.. إلخ. نعم.. مجتمعنا هو قوة شابة، تحتاج إلى تمكين.. نظام تمكين، وثقافة تمكين، حتى نفسح لهم الطريق، ونمنحهم الفرصة لرسم مستقبلهم.. هم مخلوقون لزمان غير زماننا. إعلاء قيمة التسامح وإشاعته في المجتمع، هي المبادرة الثالثة. مبادرة ذات آليات في الواقع المعاش للإمارات، في ماضيها وحاضرها، ولها ركائزها المتينة في الفكر التوحيدي، وبخاصة ديننا وتراثنا الحضاري، أبرزها الإنسان المعاصر في فلسفة حقوق الإنسان وشرعتها الدولية. إن التسامح كمفهوم حديث، مازال فهمه مشوشاً في ذهن الكثيرين في مجتمعاتنا العربية، وربما يفهمه البعض على أنه فكر مستورد، أو أنه يعني المغفرة تجاه أذى أو خطأ ارتكبه شخص، أو كما يقال المسامح كريم.. وعصارة هذا الفهم الخاطئ تعني الفوقية، أو بمعنى، الاستعلاء على الآخر وغفران أخطائه. إن المعنى الحقيقي للتسامح، هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا. وهو الوئام والعيش المشترك في سياق الاختلاف، وهو واجب سياسي وأخلاقي وقانوني. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر، شعوباً وأمماً ومعتقدات وأعراقاً وألواناً ولغات، خلقهم الله مختلفين، ليتعاونوا ويتعارفوا، ويعمروا الأرض، ويقروا بحق الآخرين المختلفين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. إن غياب التسامح في أي مجتمع، يعني انتشار ظواهر العنف والتعصب والكراهية والتكفير. ولدى من تتولى وزارة التسامح، نموذج عملي، حققته الإمارات في حسن إدارة هذا التنوع في مجتمعنا، وفي حريات ممارسة شعائر العبادة لأديان ومعتقدات عديدة.. وفي عمل إنساني خارجي لا يفرق بين بلد مسلم أو غير مسلم، ما دام هو يعاني عوزاً أو حاجة أو مرضاً أو ظلماً. أمام وزيرة التسامح ملف كبير تتوجه به إلى الداخل، وهو الأساس، وإلى الخارج أيضاً. جذور التسامح موجودة في القرآن والسنة، وفي لحظات مشرقة من تاريخنا الحضاري الإنساني، وفي مجتمعنا عبر مئات السنين، واليوم أصبح التسامح مسألة جوهرية في حياة الشعوب المتقدمة، السياسية والاجتماعية والثقافية. ما نحتاجه اليوم، أن نعمق الوعي بهذه القيمة الإنسانية والأخلاقية والدينية والقانونية، ونترجمها في مناهجنا الدراسية، وممارسات الأجيال الناشئة، وتشريعاتنا وقضائنا العام. من دون التسامح، لا يكون هناك سلام، ومن دون سلام ووئام مجتمعي، لا تكون هناك تنمية ولا سعادة. .. فلنقبض على هذه اللحظات التاريخية.
مشاركة :