السودان المدني يلبس عباءة العسكر

  • 4/23/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بلغة الأرقام الجيش يتفوق في تسليحه وتعداد قواته، ولكنه يواجه صعوبة بالغة في التعامل مع الدعم السريع داخل المدن، بالنظر لتاريخ الأخير الطويل وتمرسه على حرب الشوارع، واحتمالية تعريض المدنيين لمخاطر كبيرة.. في 15 أبريل الجاري بدأت الأزمة في السودان، وكان ذلك على خلفية توقيع الاتفاق الإطاري بين العسكريين والمدنيين، برعاية من اللجنة الرباعية، التي تضم المملكة والإمارات وأميركا وبريطانيا، ومعها الترويكا الغربية الممثلة في أميركا وبريطانيا والنرويج، والبعثة الأممية الموجودة في الأراضي الســــودانية برئاسة فولكر بيترس، وآخرين، وطرفا الصراع كلاهما نظاميان، فقد أصدر عمر البشير في عام 2013، قراراً حوّل بموجبه جماعة الجنجاويد من ميليشيا إلى قوات دعم رسمية، ومنح قائدها المدني رتبة فريق أول، وذلك تقديراً لجهوده وإنجازاته في نزاعات دارفور عام 2003. الخلاف الأساسي الذي أشعل الأزمة دار حول التوقيتات، وتحديداً ما يخص دمج قوات الدعم السريع ضمن الجيش بالتزامن مع نقل السلطة إلى المدنيين، أو خلال عامين على وجه التقريب، وكنتيجة مباشرة لطلب الدعم السريع إطالة فترة الدمج لمدة تتراوح ما بين 10 إلى 14 عاماً، ما يعني أنه سيمثل قوة موازية لجيش الدولة، وسيكون تحت إمرة المدنيين ورئيسهم بمجرد استلامه السلطة، ولن يرتبط بالمؤسسة العسكرية في المستقبل القريب. السودان لم يعرف الاستقرار السياسي منذ 70 عاماً، وقبل انفصال الجنوب في 2011، كانت الأراضي السودانية الأكبر في القـــارة الأفريقية، واحتضنت نحو 19 مجمــــوعة سكانية، وما يصل إلى 597 قبيلة، ومع تنوع لغات السودانيين ما بين القبائل العربية والنيلية والزنجية، إلا أن العربية تعد لغة التفــــاهم بين المختلفين في لغاتها، حتى في جنوب السودان، لأنهم مثلوا بمفهوم علم الاجتماع (أقلية مبدعة) حازت أدوات الثقافة، واستطاعت نقل مشروعها اللغوي والديني إلى المجتمـــع السوداني، ومن الشواهد، أن معظم المـــدن السودانية تحمل أسماء شخصيات دينية، وأسس غالبيتها شيوخ من متصوفة السنة، والسودان يمثل بوابة لأمن البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي، وفيه ثروات معدنية وزراعية كبيرة، وقيمته الجيوسياسية وجودية من الناحية المائية لمصر، وفي صراع إقليم التغراي مع أثيوبيا وإرتيريا، وبالنسبة إلى تشاد وليبيا القريبتين من دارفور. المشهد قد يغفل بعض التفاصيل وبالأخص في الحالة السودانية، لأن هناك تنظيمات سياسية داخل الجيش ترتبط بأحزاب مدنية، والثانية تستخدم العسكر لتصفية حساباتها مع خصومها، فالثابت أن انقلاب 1958 رتبه حزب الأمة السوداني لمصلحة الفريق إبراهيم العبود، وانقلاب 1969 قام به الحزب الشيوعي واليسار السوداني لتنصيب الفريق جعفر النميري، وانقلاب 1989 ضبط إيقاعه الإخوان المسلمون لتسليم السلطة إلى الفريق عمر البشير، وكل هؤلاء قادة عسكريون أوصلتهم أحزاب مدنية إلى السلطة، ولا نعرف ما يدور في أذهان قوى الحرية والتغيير وطبيعة تفضيلاتهم. اللافت أن نهضة السودان، وبشهادة مثقفيه، جاء بها المستعمر الإنجليزي، فهو من أقام كلية غوردن في عام 1904، والتي تحولت فيما بعد إلى جامعة الخرطوم، وأخذت بنظام التعليم البريطاني في نقل المعرفة والعلوم إلى السودانيين، علاوة على إقامة البني التحتية للدولة السودانية في مجالات مختلفة، وإنشاء أكبر مشروع لزراعة القطن في المنطقة، والذي عرف باسم (الجزيرة) واستهدف تغذية مصانع لانكشير في بريطانيا، وعندما استقلت السودان أصبح هذا المشروع أكبر ممول لميزانيتها العامة، وكل من تعاقب على الحكم من أهل الســـودان لم بقم بإنجاز مشـــابه، لأن المصالح الضيقة حكمت علاقتهم بالدولة ومواطنيهـــا، ومن الأمثلة الحيــــــة والحاضرة، حيازة جنوب السودان لما نسبته 80 % من النفط السوداني، واستمرار تراجعه الاقتصادي وصراعاته في الـداخل، مع أن تعداده السكاني لا يتجاوز أربعة ملايين نسمة، والمعنى أنه تخلص من اتفاقيتي ســـلام بعد صراع مع الدولة المركزية في الشمال، وبدأ صراعاً جديداً لاحتكار الموارد الطبيعية بين العرقيات الثلاث في أرضه. في العرف العسكري يعد تصرف الدعم السريع بمثابة العصيان والتمرد، رغم العلاقة القوية والممتدة والدافئة بين قائدي الفريقين في السابق، وهو ما يفسر موقف قيادات الجيش تجاهه، والتي حـــددت بموجبه خيارات التعامل معه، وحصرتها في تحييده الكامل، ومن واقع الخبرة والتجربة المباشرة، لا أعتقد أن المشكلة ستدخل إلى دائرة التهدئة، حتى يحسم أحد الأطراف الأمور لصالحه، بافتراض أنه صراع داخلي وغير مخطط من بعض الدول الغربية لخدمة مصالحها، وبالأخص في ظل الأزمة الأوكرانية الروسية، ووجود تقارب سوداني مع روسيا والصين، والاتفاق على بنـــــاء قاعدة عسكــــرية روسية في بورتسودان، وبلغة الأرقام الجيش يتفوق في تسليحه وتعداد قواته، ولكنه يواجه صعوبة بالغة في التعامل مع الدعم السريع داخل المدن، بالنظر لتاريخ الأخير الطويل وتمرسه على حرب الشوارع، واحتمالية تعريض المدنيين لمخاطر كبيرة، ولو كانت الحرب على أرض مفتوحة لرجحت الكفة لصالح الجيش مبكراً، ولعل الحل الممكن يتم، في الوقت الحالي، ويتمثـل في استهداف المقرات العسكرية للــــدعم السريع، وفي قطع الإمدادات عنه لإنهاكه وإجباره على الاستســــلام، ولست واثقاً من نجاحه، وفي رأيي الشخصي، لن ينقذ السودانيين إلا التوافق بين زعاماتهم الدينية والقبلية ومثقفيهم.

مشاركة :