"أدعو بريطانيا إلى العمل بشكل أوثق مع جمهورية أيرلندا" جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة كان يحلو للسياسيين البريطانيين والأمريكيين في السابق الحديث في كل مناسبة ممكنة، عن تلك العلاقة الخاصة التي تجمع الولايات المتحدة وبريطانيا. هذه العلاقة كانت خاصة بالفعل على مدى عقود، إلا أنها "كغيرها من العلاقات حول العالم"، لم تعد تكتسب هذه الصفة، وتحولت إلى شكل من أشكال العلاقات التي تفرضها مصلحة كل طرف، أو من تلك التي تأتي بها تحالفات تشكلت بفعل متغيرات أو تطورات. ومهما كانت القواسم المشتركة قوية بين واشنطن ولندن، إلا أنها لم تكفل موقفا أمريكيا حيال المملكة المتحدة بشأن مصير اتفاق السلام في أيرلندا الشمالية. يضاف إلى ذلك، أن إدارة الرئيس جو بايدن، لا تخفي ميلها إلى تقوية علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، على اعتباره كتلة غربية قوية، بصرف النظر عما تعرضت لها من مشكلات في الآونة الأخيرة. لا أحد ينسى الفترات الذهبية في العلاقات بين الولايات المتحدة وبريطانيا في عهدي الراحلين رونالد ريجان ومارجريت ثاتشر، أو خلال وجود بيل كلينتون وتوني بلير في الحكم، أو في عهود أخرى سابقة لإدارات أمريكية وبريطانية. لكن الأمور تتغير، والمواقف تتبدل، والتوجهات السياسية للإدارات المتعاقبة تخضع للمراجعة. ففي حين كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب يؤيد بقوة رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، وكل توجهاته الانفصالية عن الاتحاد الأوروبي، إلا أن كلا العهدين لم يستمر طويلا. فالذي جمع هذا "الحب" بين ترمب وجونسون، ليس إلا توجهات شعبوية حققت مزيدا من المكاسب الانتخابية للرجلين، إلا أنها أظهرت حقيقة أنها لا يمكن أن تكون مستدامة، طالما أنها تحاكي الغرائز عند الناخبين، وليست استراتيجيات طويلة الأمد بالإمكان البناء عليها، والاعتماد عليها للانتقال إلى المرحلة الأخرى الضرورية. لا علاقة خاصة الآن بين واشنطن ولندن. وهذه حقيقة أعلنتها الإدارة الأمريكية الحالية. نعم هناك علاقات قوية جدا تقوم على حتمية انتصار أوكرانيا في حربها مع روسيا، وتمكين حلف شمال الأطلسي "الناتو" أكثر وأكثر، وحماية حقوق الإنسان، ومواجهة النفوذ الصيني المتعاظم، وغير ذلك من سياسات مشتركة ستبقى حاضرة بصرف النظر عن هوية من يسكن البيت الأبيض و"داونينج ستريت"، ورغم ذلك، لا يوجد في الوقت الراهن اتفاق تجاري يجمع هذين البلدين. فالبيت الأبيض يواصل تعطيل التوقيع على أي نوع من أنواع هذه الاتفاقات، إلى أن تتضح الصورة، أين؟ على ساحة أيرلندا الشمالية الإقليم التابع لبريطانيا. فهذا الإقليم شهد قبل 25 عاما التوقيع على اتفاق سلام تاريخي برعاية الولايات المتحدة، التي وضعته على رأس الأولويات في العلاقة مع المملكة المتحدة. زيارة جو بايدن لأيرلندا الشمالية الشهر الماضي، للاحتفال بمرور ربع قرن على هذا الاتفاق المحوري، كانت تاريخية بكل معنى الكلمة، ليس فقط لأن الرئيس الأمريكي ينحدر من أصول أيرلندية يتفاخر بها علنا، بل لأنه عزز موقف بلاده الرافض لاتفاق تجاري مع لندن، قبل أن تحسم الأمور، التي اضطربت في الواقع من جراء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". لماذا؟ لأن عضوية المملكة المتحدة في الكتلة الأوروبية، كانت تضمن فتح الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، ما يتماشى تماما مع أهداف اتفاق السلام الأيرلندي عموما. أي أن تبقى الحدود مفتوحة تحت كل الظروف، لماذا أيضا؟ لكيلا يعود الاقتتال الدموي الذي دام أكثر من ثلاثة عقود إلى الإقليم. لو كانت هناك علاقة خاصة حقيقية بالفعل بين لندن وواشنطن، لكان المشهد العام مختلفا تماما. ورغم كل "الإغراءات" التي يقدمها البريطانيون لإدارة بايدن بشأن العلاقات التجارية، بما في ذلك رفع مستوى الاستثمارات البريطانية في الولايات المتحدة، وخفض أسعار السلع والخدمات للمنتجين والمستهلكين الأمريكيين، وحماية صارمة للخدمات العامة على الصعيد البريطاني، رغم هذه "الإغراءات" وغيرها، إلا أن واشنطن لم تغير من موقفها، ما تريده ضمانات مكتوبة تقر على مستوى دولي، بأن الحدود لن تعود بين بلفاست عاصمة الإقليم الأيرلندي الشمالي، ودبلن عاصمة الجمهورية الأيرلندية المستقلة. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة، ترى أن تدعيم علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، أفضل بكثير من تدعيمها مع بريطانيا لأسباب عديدة على رأسها الاتساع الهائل للسوق الأوروبية ككل. لا يبدو أن اتفاقا تجاريا قريبا سيتم التوقيع عليه بين الولايات المتحدة وبريطانيا. والسبب يعود إلى رفض تيار أيرلندي أساسي موال للمملكة المتحدة، أي اتفاقية بين هذه الأخيرة والاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا. فهذا الاتفاق الذي لم يتم حتى الآن، بعد مرور عامين على الخروج من الاتحاد، تضعه واشنطن كنقطة انطلاق أساسية لاتفاقها التجاري المقبل مع لندن. إنها مسألة واضحة. كأن بايدن يقول، أنهوا مشكلة أيرلندا، وتعالوا لنوقع معكم اتفاقا تجاريا، يضمن علاقات اقتصادية طبيعية، لكن حتى لو تم التوقيع على هذا الاتفاق ستكون الأفضلية في معيار الإدارة الأمريكية للاتحاد الأوروبي. فهي تتوجه إلى سوق هي الأكبر على صعيد اقتصادات السوق، بينما تصل المبادلات التجارية إلى مستويات عالية مع الكتلة منذ زمن بعيد.
مشاركة :