تستمد هذه المقالة أهميتها من الحالة الراهنة التي يمر بها النظام الاقتصادي العالمي، حيث مظاهر المنافسة بين الدول الكبرى مستمرة بالصعود الاقتصادي الكبير للصين، وجهود روسيا لاستعادة مركزها في النظام العالمي، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ تتناول نظام «بريتون وودز»، الذي نشأ في الأساس لدعم الحلفاء خوفاً من انتشار الشيوعية، فقام على تثبيت سعر الصرف وتجنب حروب العملات، ثم تحول الدولار من قاعدة الذهب إلى قاعدة النفط، إذ ردع معارضة الحلفاء (أوروبا واليابان)، عقب استعادتهم عافيتهم الاقتصادية في الستينات من القرن الماضي، ثم السيطرة الأميركية على العالم الثالث من خلال مجموعة من السياسات، أبرزها تخفيض سعر الصرف، في اتجاه مخالف للسياسة التي نشأ من أجلها نظام «بريتون وودز» في الأربعينات، وبرزت ملامح هذا التحول في بداية السبعينات من خلال إثارة ثلاث أزمات: الأزمة النقدية العالمية عام 1971، وأزمة الغذاء العالمي عام 1972، ثم أزمة النفط عام 1973. وقد ظهرت أدوات سيطرة أميركا الجديدة على دول العالم الثالث، من خلال تحويل وظيفة ثنائي «بريتون وودز» (صندوق النقد والبنك الدوليان) من دعم الحلفاء إلى السيطرة على دول العالم الثالث، ثم دور وكالة المعونة الأميركية في ضبط السيطرة على وظيفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما تناول تحولات سياسات المعونة الأميركية، وأثرها على التنمية والمديونية في دول العالم الثالث. وأثر سقوط دول العالم الثالث في فخ الدين على قضية التنمية فيها، وفشل محاولات دول العالم الثالث (دول عدم الانحياز) في بناء نظام اقتصادي عالمي جديد. وتعتمد أميركا على كون الدولار يلعب دور عملة الاحتياط الدولي والتجارة الدولية، كما أنها أصبحت الدولة التي تستطيع طبع الدولار دون غطاء، بعد إيقاف تحويل الدولار إلى ذهب عام 1971، مما يمكنها من طبع الدولار بما يفوق حجم ناتجها المحلي الإجمالي، ويمكنها من تقديم القروض بهذه العملة مع إدراكها الكامل أن معظم الدول النامية لن تتمكن من سداد الديون، وأن أميركا لا تريد بالفعل قيام تلك الدول بالسداد، لأن ذلك هو السبيل إلى تحقيق أهدافها بعد ذلك من خلال مفاوضات سياسية واقتصادية وعسكرية. لكن الأمر لم يستمر طويلاً، فقد تأسس الاتحاد الأوروبي عام 1992، وبرز الاقتصاد الصيني في التقدم بقوة، منذ أن بدأت مسيرته عام 1978، كما أن روسيا عائدة بقوة، تحاول استعادة مكانها في النظام الدولي، بجانب تأسيس مجموعة «بريكس» التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين، ولاحقاً جنوب أفريقيا. ومن أجل الإصلاح، وضع البنك الدولي أسساً يفترض أن تعزز قدرته على إقراض الدول الفقيرة والنامية ومساعدتها بشكل أفضل في مواجهة تغير المناخ أو الأوبئة، وأعلن رئيس المؤسسة المالية الدولية، أن الدول الأعضاء وافقت على إجراءات يمكن أن تضيف ما يصل إلى 50 مليار دولار إلى قدرة البنك الدولي للإنشاء والتعمير (التابع للبنك الدولي) على الإقراض في السنوات العشر المقبلة، وأقرت هذه التغييرات لجنة التنمية، التابعة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي تضم وزراء مال 25 بلداً، على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وأطلق إصلاح البنك الدولي، وعلى نطاق أوسع إصلاح مصارف التنمية، بدفع من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً أميركا، وحتى ذلك الحين، يفترض أن تتخذ إجراءات إضافية في المؤتمر الدولي الخاص بالمساعدات المالية لدول الجنوب، الذي سيعقد في 22 و23 يونيو (حزيران) 2023 في فرنسا. إن مهمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، باتت تؤكد أهمية إشراك الجميع والاستمرارية والقدرة على الصمود في مواجهة الصدمات العالمية لتحقيق أهدافه، كذلك الحفاظ على الزخم خلال العام الحالي مع إصلاحات إضافية، كما أن هنالك ثمة فرصة تاريخية مع هذا الإصلاح لمصارف التنمية متعددة الأطراف، لتأمين الوسائل المالية اللازمة للدول النامية التي تأتي في طليعة الذين يعانون من الأزمة الاقتصادية والتضخم. في الختام، تسعى كل من الصين وروسيا ومعهما دول «بريكس» والدول العربية وبقية العالم لإنشاء آلية دولية بديلة عن مؤسسات الأمم المتحدة و«Bretton Woods»، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وآلية بديلة عن منظمة التجارة العالمية، تستوعب كل المتغيرات الاقتصادية والسياسية الحاصلة في العالم، وهذه هي مقدمات لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد، بديل لها أو صيغة متطورة تستوعب التغيرات المتسارعة في التجارة الدولية، وتستجيب للمهام الواسعة الكبيرة التي أصبحت أكبر من المهام التي يضطلع بها كل من الصندوق والبنك الدولي.
مشاركة :