ماذا يعني اليوم الاحتفال بذكرى ميثاق العمل الوطني بالنسبة لمجموع البحرينيين بعد مرور نحو 15 سنة عن الاستفتاء التاريخي الذي فتح به جلالة الملك حفظه الله الطريق أمام عهد جديد، من خلال المشروع الإصلاحي للنهوض بالبحرين وشعبها؟ 15 سنة مضت على هذا الحدث الذي وضع حدًا للأزمة التي شهدتها البلاد خلال الفترة الفاصلة بين 1994 و1999م، ونزع فتيلها بالعفو العام على المحكومين، وعودة جميع من كانوا في الخارج، وإلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، والإعلان عن الدخول إلى مرحلة سياسية جديدة قوامها الديمقراطية والمشاركة والقانون والمؤسسات. ثم خطا جلالته خطوة مهمة بنهاية العام 2000م، عندما طرح تصوره، لمشروع حضاري يستعيد نهضة البحرين التاريخية، حيث شكل ميثاق العمل الوطني أبرز ملامح هذا المشروع وآلية الانتقال إلى مرحلة أكثر تطورًا. وبذلك شكل هذا الإعلان نقطة تحول مهمة في تاريخ مملكة البحرين، استجابة للتطلعات الشعبية في حياة سياسية متقدمة، تتناسب والنمو الاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق في المراحل السابقة. وقد مكن الميثاق من حل العديد من الإشكالات التي كانت قائمة آنذاك، ومنها على وجه الخصوص: حسم موضوع مشاركة المرأة في الحياة السياسية في مبادرة جريئة غير مسبوقة في منطقة الخليج العربي. وتحديد طبيعة المشاركة الشعبية من خلال بناء العلاقة المتوازنة بين المجلس التشريعي المنتخب ومجلس الشورى المعين، بما أدى في النهاية إلى إنهاء حالة التوتر التي كانت قائمة في الفترة السابقة، والبدء في تنظيم الحياة السياسية بشكل يحقق التنمية ويحفظ امن البلد واستقراره. والسؤال هنا: هل ان المبادئ التي جاء بها الميثاق قد حظيت بالتطبيق الكامل والمثالي والشامل منذ ذلك الحين وحتى اليوم؟ والجواب بطبيعة الحال، أن المبادئ الأساسية التي تضمنها هذا الميثاق ملزمة للجميع: سلطة ومواطنين ومؤسسات مجتمع مدني ومكونات المجتمع السياسي، ولذلك فإن السؤال يحيط بالجميع بنفس المقدار من المسؤولية: -أولاً: على صعيد السلطة، وعند متابعة التطورات التي شهدتها الساحة البحرينية خلال هذه السنوات الغنية بالأحداث والتحولات، يمكن القول إنها قد التزمت الى حد كبير بمجمل المبادئ والتوجهات التي جاء بها الميثاق، بالرغم من ضخامة التحديات التي واجهتها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، ويمكن اليوم، وبعد مضي 15 سنة القول بقدر كبير من الموضوعية إن السلطة قد خطت خطوات مهمة، تحققت في خلالها طموحات كثيرة على أرض الواقع، وبقيت آمال أخرى، بانفتاح آفاق جديدة متنامية في إطار رؤية متدرجة قوامها التحرك التدريجي في المشاركة الشعبية واتخاذ القرار، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، وتطور حرية الصحافة، إذ عاشت البحرين مخاضًا سياسيًا كبيرًا، تمخضت عنه ولادة مجلس نيابي منتخب يمارس سلطاته التشريعية، بينت التجربة أنه كان يتجه تدريجيًا الى مزيد من النضج والفعالية، ويمثل علامة واضحة في عهد الإصلاح السياسي الذي انبثقت عنه جمعيات العمل السياسي والاجتماعي، ضمن قانون يكفل عملها، وصار لها حضور مؤثر، بالرغم من ان بعضها لم يرغب في دخول البرلمان في البداية، ثم أخذت تتراجع شيئًا فشيئًا عن موقفها، كي لا تكون خارج الساحة السياسية المؤثرة، بعد فشل نهج المقاطعة، وأكدت التجربة التشريعية الوليدة، أن أحد أهم عوامل نجاحها هو مقدار التعاون الإيجابي والتواصل البناء بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على جميع المستويات، وقد كان هذا واضحًا في العديد من الملفات، بما حقق مكاسب كبيرة للمواطنين. - ثانيًا: على صعيد المجتمع السياسي، كان واضحًا بعد الانتخابات التشريعية والبلدية أواخر العام 2010م أن التجربة الديمقراطية تتحسن (وإن ببطء في بعض الجوانب)، وأن مواقع الجمعيات السياسية - خاصة المعارضة منها - كانت تتعزز، وأن التعديلات الدستورية قد بدأت تجد طريقها إلى المناقشة وأن جميع الاحتمالات في مجال تطوير الحياة السياسية كانت مفتوحة، دون تهور أو قفزات في المجهول لا تتناسب مع معطيات الواقع المحلي والإقليمي. أما الأصعدة الأخرى، فقد كانت الرقابة المالية والإدارية قد بدأت تتعزز والأوضاع الاقتصادية تتجه نحو التحسن رغم الاثار السلبية للازمة المالية العالمية في العام 2008، حيث أمكن تقديم المزيد من المكتسبات الاجتماعية والمزايا المالية للمواطنين، وتقليص البطالة الى نحو 4% والحد من الفقر، وتحقيق مكتسبات جديد للفئات الاجتماعية الأكثر احتياجًا، من فاقدي السند والارامل وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم... ولذلك لم يكن أحد يتوقع أن تقوم المعارضة بعيد الانتخابات الناجحة بثلاثة أشهر فقط، بتلك الاحتجاجات المثيرة التي لم يكن لها أي مبرر سياسي في سياق التجربة البحرينية الوليدة، إذ كان الحكم يتجاوب بشكل إيجابي مع التطلعات الشعبية، وكان الأداء الحكومي أفضل من المراحل السابقة، ولذلك، وبقدر ما كانت أحداث فبراير 2011م غير متوقعة، فإنها كانت بمثابة الانقلاب على ميثاق العمل الوطني الذي كان ينتظم الحياة السياسية كمرجعية أساسية جامعة، حيث حاولت المعارضة إيجاد ميثاقها الخاص بها، في محاولة يائسة لتجاوز ميثاق العمل الوطني، والعودة مجددًا إلى مرحلة ما قبل الميثاق. وقد بينت المرحلة الماضية ان هدف أغلب قوى المعارضة قد كان تجاوز شرعية الميثاق وخلق شرعيات جديدة ولذلك كان الحديث يجري حول ما سمي بمجلس تأسيسي جديد. ولكن تلك المحاولات فشلت، وتعزز هذا الفشل بمقاطعة انتخابات 2014 وإهدار الفرص العديدة التي كانت متاحة أمامها للعودة الى الحياة السياسية وإصلاح ما تم افساده، وتجاوز الشعارات المقرونة بالأفعال التي أدخلت البلاد في حالة اضطراب وفوضى، ولذلك نتساءل اليوم بكل صدق وتطلع لإصلاح ذات البين وإرجاع الأمور إلى مسارها الوطني الطبيعي: من انقلب على العهد والميثاق؟ ولمصلحة من وماذا؟ سؤال موجع وصريح ومباشر نطرحه على من يهمه الامر، من الراغبين في المراجعة والعودة إلى جادة الصواب بعد المغامرة السياسية، حتى يتسنى للجميع عمل مراجعة جذرية للمواقف، والإقرار بالأخطاء بشجاعة وتحمل المسؤولية إزاء النتائج الكارثية لتلك الحركة التي أساءت للوضع بشدة. ومع ذلك، تظل الفرصة قائمة، لاستعادة قيم الميثاق، والعودة الى الصف الوطني، واستعادة وحدة الوطن، وإنجاز المراجعة للممارسات والاخطاء، والقبول بمنطق التدرج في الإصلاح السياسي، وبناء الديمقراطية الوطنية ضمن التالف والتوافق، والوحدة لدرء المخاطر عن الوطن ومواجهات التحديات التنموية.
مشاركة :