هل كلماتنا تشكّل العالم؟ أم أن العالم يشكّل كلماتنا؟ سؤال فلسفي قديم يسلط الضوء على العلاقة المعقدة المتداخلة بين واقعنا وكلماتنا، والظاهر لنا أن الواقع هو من يشكل كلماتنا، وفي لمحة ذكية يرصد العلّامة الأصمعي الأساس الاجتماعي للغة حيث يقول: «كان للعرب كلام على معانٍ، فإذا تبدلت لم يُتكلم بذلك الكلام. فمن ذلك قول الناس اليوم: «ساق إليها صداقها». وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلاً وغنماً. ومن ذلك قول الناس اليوم: «قد بنى فلان البارحة على أهله». وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبة وخيمة، وذلك هو بناؤه». ثمة تغييرات هائلة تحدث في عالم اليوم تنبثق من خلالها اتجاهات وبيئات وأنظمة جديدة، فتظهر مصطلحات جديدة أو تتعدل مصطلحات موجودة، ومن أكثرها تأثراً هي المصطلحات الجيوسياسية، فالتوجه العالمي لحماية الاقتصادات المحلية (الحمائية) المضاد للعولمة، ونتائج فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا عندما شرعت البلدان المنتجة لحماية سلاسل التوريد والتركيز على الإنتاج المحلي على حساب التجارة العالمية، والحرب الروسية الأوكرانية سارعت بشكل حاد بجعل الجغرافيا السياسية عاملاً مركزياً في السياسة الاقتصادية. لا يمكن للشركات تجاهل الجغرافيا السياسية بعد الآن فقد أدت التوترات في مضيق تايوان إلى إيقاظ وحشي للشركات التي اعتقدت أنها تستطيع الاستمرار في العمل في مجال سلمي إلى حدٍّ كبير، حسبما تطرحه الباحثة البريطانية إليزابيث براو، موضحة بأن تراجع العولمة يغير سلوك الشركات عندما تبدأ مجالس الإدارة في الاهتمام بالحرب. سنعرض هنا، وفي مقالين لاحقين، لمحة على بعض المصطلحات الجيوسياسية الأكثر شيوعاً اليوم سواء الناشئة أو القديمة لكنها تعدلت عما كانت عليه وأصبحت بحاجة لإعادة التفكير بها عند استخدامها، أو مصطلح قديم كان متراجعاً وعاد للواجهة، ومنها تفرعت مصطلحات جديدة، سنستخلص أغلبها مما طرحه ريتو كويني كبير الاقتصاديين في شركة فونتوبيل للاستشارات الاستثمارية. العولمة (Globalization) معروفة بين مؤيد ومحايد ومعارض يرى أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، فظهر من هذا الوضع مصطلح مضاد لها هو نزع العولمة (Deglobalization) أو إزالة العولمة وتفرعت منه مصطلحات عدة، وهي لا تعني إلغاء العولمة بقدر ما تعني تقليل الاعتماد المتبادل والتكامل بين جهات (عادة دول) معينة حول العالم. مؤيدو هذا التوجه في بعض أجزاء العالم النامي يؤكدون أن العولمة أنتجت ظروف عمل قاسية ورواتب متدنية، وأنها تستغل العمال؛ بينما في أجزاء أخرى من العالم، يشكون بأن الكثيرين فقدوا وظائفهم بسبب الاستعانة بمصادر خارجية، وتسهيل الواردات، والعمال المهاجرين.. كل هذا أدى إلى صعود المواقف القومية والشعبوية المضادة للعولمة. من أشهر أمثلة تراجع العولمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتراجع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن عدد من المعاهدات والتحالفات الدولية. مع ظهور اتجاهات نزع العولمة تولدت مصطلحات جديدة مثل «تضامن الأصدقاء» (Friendshoring) ويقصد به تحالف التصنيع والتوريد بين البلدان ذات القيم المشتركة؛ على سبيل المثال، أشارت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين قبل أشهر، إلى تضامن الأصدقاء في خطاب شدد على أهمية التركيز على التجارة والاستثمار داخل مجموعة من البلدان التي تشترك في قيم مماثلة، والتي فسرها البعض على أنها محاولة لتهميش الصين. ومثل مصطلح «تفضيل الأقرب» (Nearshoring) ويقصد به ممارسة العمليات التجارية بين البلدان القريبة جغرافياً، خاصة في التفضيل على بلد بعيد. من الأمثلة النموذجية لذلك: شركة مقرها في الولايات المتحدة تقوم بعقد مع مورد خارجي مع جارتها المكسيك؛ أو عميل في ألمانيا يفوض العمل إلى مزود خدمة تطوير في بولندا. كذلك انبثق مصطلح «الحمائية» عندما تقرر حكومة بلد ما تقييد التجارة الدولية من أجل دعم الصناعات المحلية وتحسين الاقتصاد المحلي، مرتكزة بشكل أساسي على مجالات التعرفات الجمركية وحصص الاستيراد ومعايير المنتجات. المؤيدون للحمائية يرون أنها تخلق وظائف للسوق المحلية ويعزز بدوره النشاط الاقتصادي، ويخالفهم معارضو الحمائية بأنها غالباً ما يكون لها تأثير معاكس، وقد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار والتضخم. مقابل المصطلحات المضادة للعولمة ظهرت أخرى معها، مثل «بطء التوازن» (Slowbalization) يقصد به أن اتجاهات العولمة تستمر، لكن ببطء أكثر.. فبعد تعافي العالم من وباء كورونا، فإن بعض المناطق كانت تتعافى بشكل أسرع من عمليات الإغلاق، مثل الهجرة العالمية والسياحة، والخدمات اللوجستية. ويرجع ذلك البطء جزئياً إلى نقص العمالة والتحولات في الطلب. لذا، فإن مصطلح إزالة العولمة لا تصف بدقة البيئة الحالية مثل مصطلح تباطؤ التوازن. لا هذا المصطلح ولا ذاك، بل مصطلح آخر جديد، فلا العولمة انتهت ولا أضدادها توقفت. إنه مصطلح «التوازن الجديد» (Newbalization). هذا المصطلح يصور بشكل أفضل اتجاهات العولمة وتراجعها، والتحول نحو طريقة تفكير جديدة في العولمة، بدلاً من الادعاء بأنها قد وصلت إلى نهايتها، بل وصلت إلى توازنها مع الحمائية. يستخدم هذا المصطلح لوصف الوضع المتطور الذي من المرجح أن تعيد فيه الدول التفكير في تجارتها وتبادل البيانات عبر الحدود وسياسات الهجرة وشبكات التوريد وذلك لتخفيف اعتمادها على بلدان معينة وموردين محدودين. وللمصطلحات بقية..
مشاركة :