الاقتصادات الضبابية (Fuzzynomics) هو المسمى الذي أطلقه على فترتنا الحالية المستثمر والمؤلف أنطوان فان أغتميل الذي سبق له أن اخترع مصطلح «الأسواق الناشئة» في الثمانينيات.. هذه الضبابية تختصر عالماً لم تعد فيه القواعد القديمة سارية بينما القواعد الجديدة لم تتضح بعد، حيث يمكن للحكومات والبنوك المركزية التدخل في الاقتصاد أكثر فأكثر من أي وقت مضى. «حالياً تبدو الأشياء مصطنعة ومضخمة وغير مؤكدة، وقد تمضي التجربة إما بشكل رائع أو خطأ فادح..» على حد ما ذكره تقرير مجلة فورين بولسي. منذ اندلاع جائحة كورونا تزايد تدخل الدولة في الاقتصاد التي بدأت بعد الانهيار المالي عام 2008 لاتخاذ تدابير طارئة مثل أسعار الفائدة القريبة من الصفر وعمليات الشراء الضخمة للأصول من قبل البنوك المركزية لإبقاء الاقتصادات المتقدمة مستمرة.. يهتف الكثيرون لهذا باعتباره عودة الدولة القوية، بينما يخشى آخرون من اللا مسوؤلية المالية وتضخم البيروقراطية. حالياً، تخرج المعايير الدولية للنظام الاقتصادي الليبرالي القائمة على التجارة والأسواق الحرة، وتحل محلها عقيدة جديدة للتدخل، حيث تسعى حكومات الاقتصادات الحرة إلى تأمين الوظائف، ومراعاة النظام البيئي واستدامته، وإعادة تنظيم سلاسل التوريد، مع قيام الدول بكبح العولمة في الوقت الذي تعيد فيه تنظيم اقتصاداتها في ظل المنافسة الإستراتيجية الناشئة بين واشنطن وبكين. هذا العصر الجديد مليء بالمفارقات والعواقب غير المقصودة. كان من المفترض أن تصل تريليونات الدولارات التي أنفقتها البنوك المركزية إلى الشركات والعاملين فيها، لكن يبدو أنها غذت أكبر طفرة في الأصول في التاريخ، مما جعل الأغنياء أكثر ثراءً وساعد في رفع عدم المساواة في الولايات المتحدة إلى مستويات لم نشهدها منذ الكساد الكبير حسب مجلة فورين بولسي. لمساعدتنا على التفكير فيما سيحدث لعالمنا بعد ذلك، طلبت مجلة فورين بوليسي من اقتصاديين ومفكرين بارزين وصف العصر الاقتصادي الجديد بعد الوباء واقتراح الاسم أو المصطلح الذي يمكن أن يُعرف به، لرسم شكل إجمالي لملامح عصرنا. وهنا عرض مختصر لأهم ما طرح فيه.. «الاقتصاد التجريبي» هذا ما أطلقته عليه البروفيسورة ستيفاني كيلتون، أستاذة الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة ستوني بروك، موضحة أننا أصبحنا جميعًا تجريبيين في السياسة بالعصر الجديد الذي بشرت به الأزمة المالية العالمية 2008-2009 ووباء كورونا؛ ولكن يبدو أن هناك شيئًا واحدًا واضحًا، تقول: في حالة اندلاع التضخم، لن يضع صانعو السياسة كل بيضهم في سلة رفع الأسعار، سوف يجربون طرقًا جديدة لاحتواء الضغوط التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وإذا توقف الانتعاش أو فشل في توفير وظائف كافية للجميع، فقد نرى حتى بعض الحكومات في جميع أنحاء العالم تحاول تجارب أخرى مثل ضمان الوظائف العامة. أما محمد العريان (استشاري اقتصادي وعميد كلية كوينز بجامعة كامبريدج) فأطلق عليه عصر «الحكومة غير المقيدة»، فبعد ما يقرب من أربعة عقود من تحرير الاقتصاد وإلغاء القيود، عكست الحكومات في العديد من البلدان المتقدمة مسارها وأخذت تعيد إدخال نفسها في الحياة اليومية لمواطنيها؛ المحفز هو جائحة سببت معاناة إنسانية هائلة.. إذ تشير الأحداث الجارية والتاريخ إلى أن هذه الظاهرة ستظل معنا لفترة من الوقت، ويمكن أن تحقق مكاسب مهمة للمجتمع، ولكنها أيضًا تنطوي على مخاطر تجاوز الحد.. إلا أن الحكومات ليس لديها خيار سوى التدخل ووقف الكارثة من أن تصبح كارثة متعددة الأجيال. إذا كانت عودة الحكومة مصممة بشكل جيد، فإنها تتيح لنا الفرصة لمواجهة التحديات طويلة الأمد، لكن هذا سيحتاج إلى درجة من الانضباط الذاتي التي كافحت الحكومات - وحتى البنوك المركزية - لفرضها في الماضي: ألا وهو تجنب فشل السوق الذي يتفاقم بفعل فشل مؤسسات القطاع العام والحوكمة. إنه عصر «رأسمالية ما بعد مالية» حسب دامبيسا مويو الخبيرة الاقتصادية حيث ستعيد الثقافة الاقتصادية الناشئة صياغة كيفية تداول الشركات العالمية واستثمارها وتصرفها.. فبينما ننتقل من تفوق المساهمين الماليين إلى رأسمالية أوسع لأصحاب المصلحة، تتحول الشركات إلى مقاييس جديدة لتقييم النجاح بما يتجاوز الأرباح عبر جدول أعمال بيئي واجتماعي وحوكمة معقدة، وأمور تتضمن قائمة طويلة من القضايا: المناخ، تمكين العمال، التنوّع الثقافي والعرقي، المساواة في الأجور.. وهنا يتعرّض صنَّاع السياسات والشركات والمؤسسات المالية لضغوط شديدة بشأن هذه الأمور. مشابه لذلك الطرح ترى ماريانا مازوكاتو، أستاذة اقتصاد الابتكار بجامعة لندن أن المطلوب هو «عقد اجتماعي جديد»، ففي حين يتحدث رجال الأعمال عن رأسمالية أصحاب المصلحة، تتحدث الحكومات عن الحاجة إلى مواجهة تحديات مثل تغيّر المناخ. كما يتطلب العصر الجديد وضع هدف مشترك في تفاعل القطاعين العام والخاص وخلق القيمة المشتركة بينهما؛ فلفترة طويلة، كانت العلاقة بين الحكومة والشركات طفيلية وليست تكافلية. إنه «زمن الفوارق المميتة» بهذه الحدة ترى عصرنا جياتي جوش، أستاذة الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس.. كانت التفاوتات العالمية شديدة بالفعل قبل الجائحة؛ والآن، هناك تفاوتات أكبر تقتل الناس في الواقع.. الانتفاع الانتهازي باللقاح من البلدان الغنية واستعمار المعرفة من خلال السيطرة على حقوق الملكية الفكرية يعني أن المرض سيستمر في تدمير الأرواح والاقتصاد.. وللأسماء المقترحة لعصرنا الجديد بقية..
مشاركة :