بغداد - تحول شارع المتنبي الشهير بمكتباته في العاصمة العراقية بغداد، منذ إعادة ترميمه بشكل حافظ على تاريخه الممتد منذ ثلاثينات القرن الماضي، إلى مركز ثقافي مزدهر يجذب الكثير من الزوار. على امتداد الشارع بمحاذاة دجلة اختزن تاريخ تسعة قرون وتحوّلاتها بين مكتباته وأزقته ومطابعه، رغم تبدّل العهود وتعاقب الحكومات. سمّاه العبّاسيون "درب زاخا" وهي مفردة آرامية الأصل، وسمّاه السلاجقة "شارع الموفقية" نسبة إلى مدرسة الموفقية الكائنة فيه وقتها، بينما أطلق عليه العثمانيون اسم "الأكمكخانة" أي شارع المخابز العسكرية لوجود تلك المخابز مقابل المعسكر التركي وقتئذ، ليترسخ منذ قرابة القرن باسمه الجديد ووظيفته الحيوية كرئة بغداد الثقافية. وشارع المتنبي هو أيقونة بغداد الثقافية، ويحمل منذ عام 1932، خلال عهد الملك العراقي فيصل الأول عام 1932، اسم الشاعر الشهير أبوالطيب المتنبي (915 – 965 ميلادي) المولود في عهد الدولة العباسية. ومن ساعات الصباح الأولى إلى أوقات متأخرة ليلا، لاسيما أيام الجمع والعطل الرسمية، يعج الشارع برواد بينهم شعراء وأدباء وكتاب وفنانون وطلاب، إلى جانب وافدين أجانب وعرب، للاستمتاع بفعاليات ثقافية وفنية. وتقول الطالبة الجامعية حواء عواد الشمري إنها ترتاد الشارع بشكل منتظم أيام الجمع، وغالبا أوقات المساء بفضل التحسن الأمني والتطور الذي طرأ عليه مع تزايد أعداد المكتبات، فهو بات متنفسا للعوائل البغدادية. وتتابع الشمري (23 عاما) "شارع المتنبي مكان آمن أتبضع منه كتبي الجامعية وكتبا أخرى إضافية، نلحظ وجود أشياء تراثية قديمة تذكرنا بأصالة العراق مما يجعلنا نشعر بالزهو والفرح.. أحب ارتياد الشارع وكنا دائما نطمح إلى أن يكون بهذا الشكل، والحمد لله اليوم يشهد تطورا". ويبلغ طول الشارع نحو كيلومتر واحد ويؤدي إلى إحدى ضفاف نهر دجلة، يتقدّمه تمثال كبير للمتنبي، وينتهي بنصب خطّ عليه بيت من أبيات قصائده الشهيرة. وتتفرّد بغداد بشارع المتنبي الشهير منذ إنشائه خلال العصر العباسي تحت اسم سوق الورّاقين، فهو يعدّ إلى غاية اليوم سوقا مزدهرة بالكتب، إذ يعجّ بالمئات من المكتبات التي تعرض آلاف العناوين والإصدارات وحتى المخطوطات النفيسة، فضلا عن باعة الأرصفة، حيث يفترش أصحابها آلاف الكتب الحديثة والنادرة، بالإضافة إلى ما تحتضنه المنطقة من معارض فنية ومجالس ومنتديات ثقافية ومنابر للرأي في ساحات الشارع ومقاهيه. وفي جولة في الشارع الأشهر بالعراق يمكن رصد أعمال الترميم والتطوير وشرفات مزينة بأضواء والكثير من الزوار وبينهم عائلات من مختلف محافظات البلاد، كما يمكن تصفح عناوين أدبية وسياسية واجتماعية تعرضها أكشاك ودكاكين بيع الكتب القديمة والحديثة المنتشرة على طول جانبي الشارع. وقال عامر محمد فؤاد (33 عاما) وهو سائح أردني يتواجد في شارع المتنبي، "في أول زيارة للعراق توجهت إلى المتنبي للتعرف عليه عن قرب وآخذ فكرة حية عن تاريخه. أسمع كثيرا بالشارع الأشهر بالكتب القديمة والحضارة والفن". وأضاف "وجدت المتنبي مزدهرا وحيا بروح التاريخ ويعج بحركة الناس المحبة للثقافة والعلم والحضارة والكتابة، واستُقبلت كسائح عربي من العراقيين بحفاوة كبيرة من الترحيب والكرم". ومشجعا الوافدين إلى بغداد على زيارة شارع المتبني، يؤكد "وجدت أجمل الحضارة، وأفضل الكتب المفقودة ببقية دول العالم متوفرة بشارع المتنبي". ويعتبر محمد حسين وهيب (58 عاما) وهو مدرس في بغداد نفسه يعيش أجواء الفلكلور العراقي عندما يزور المتبني مع عائلته"، قائلا "الشارع يربط الحاضر بالماضي والمستقبل"، متابعا "أشعر براحة نفسية، وأتمنى أن ينتقل هذا الشعور إلى كافة الأجيال حتى يعرف العالم وأبناؤنا أن العراق بلد الأصالة". وبخصوص إعادة ترميم وتطوير الشارع، يصف الأمر بأنه "إنجاز، وأتمنى أن تحذو بقية المناطق العراقية حذو المتنبي لتوفير أماكن ومتنفس للعوائل، وتصبح لدينا أماكن ووجهات سياحية عديدة لجذب السواح للتعرف على معالم البلد، مثل شارع الرشيد، لإكمال هذه التجربة الرائدة". وتعرض الشارع في الخامس من مارس/آذار عام 2007 لتفجير بسيارة مفخخة أدى إلى مقتل 30 شخصا من المتسوقين، وتسبب في تدمير العديد من الأبنية القديمة، فقد انهارت المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست منذ عام 1908، كما دمر مقهى الشابندر واحترقت الآلاف من الكتب بدمار مكتبات ومطابع كثيرة، وأصبحت العديد من المباني البغدادية الأثرية في المنطقة ركاما منثورا، فكان ذلك مشهدا مأساويا لا تزال مرارته حاضرة في أذهان المثقفين العراقيين. وفي 2008، أعيد افتتاح شارع المتنبي مجددا بعد إعادة إعماره وإضافة رمزه التاريخي الشاعر أبي الطيب المتنبي عبر إقامة نصب جديد له من البرونز بمحاذاة نهر دجلة، كما قامت محافظة بغداد بإعادة تأسيس المركز الثقافي البغدادي ليضم عدة قاعات تحمل أسماء أعلام العراق وفنانيه، خصصت للندوات الثقافية والمنتديات الشعرية والمهرجانات والمعارض الفنية المختلفة. وفي 2021، خضع الشارع بمكتباته لإعادة ترميم استمرت أشهرا وذلك بهدف أن يستعيد هذا الشريان الحيوي في العاصمة العراقية البعض من مجده السابق. منذ قرابة خمس سنوات، يتواجد في الشارع إياد دبس كاظم (37 عاما) وهو فنان تشكيلي يعلم الأطفال الرسم ويحاول إسعاد الزوار المتوافدين على الشارع، ما يخلق تمازجا مميزا بين عالم الكتب وعالم الرسم والألوان. ويقول كاظم "المتنبي محطة أنظار الفنانين والعالم، منذ خمس سنوات أمارس هواية الرسم. دربنا وخرجنا العديد من الأجيال وشاركنا في المعارض والمهرجانات، وهدفي الأول ليس جني المال وإنما إسعاد العراقيين، فأنا إنسان قبل أن أكون فنانا، ونقدم دورات مجانية لتعليم الرسم". ويوضح أن "الشارع كان مغلقا في السابق ولا حركة للناس فيه، لكن اليوم الوضع مختلف تماما. هناك إقبال يتضاعف يوما بعد آخر بسبب ما شهده من بناء ضخم أضفى عليه جمالا ساحرا وجعله قبلة للفنانين".
مشاركة :