يحتل شهاب الدين أبوالفتوح يحيى السهروردي، الملقب ﺑ”السهروردي المقتول”، في تاريخ التصوف الإسلامي مكانة كبيرة، كونه مؤسسا للفكر الفلسفي الإشراقي، الذي يدعو إلى الوصول إلى المعرفة، عن طريق الذوق والكشف الروحاني، بخلاف التوجه الفلسفي العام والمستدل بالتقصي والتحليل البرهاني. لكن منهجه لا يعارض الحكمة على عكس ما يدعي الكثير من المستشرقين.
جمع السهروردي بين عدة توجهات فلسفية من الفكر اليوناني والفكر الشرقي وغيرهما كنماذج فلسفية لتوضيح الفلسفة الإشراقية، وهو يمثل أكبر من دعا إلى التأمل الروحاني من بين الفلاسفة المسلمين، كما عرف عنه عدم الاقتناع بالمصادر، بل بأسلوب التفكير الذاتي والنفسي.
انطلاقا من هذه الرؤية جاءت هذه الدراسة “المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي في ضوء المنطق الأوروبي الحديث”، التي حصل بها الباحث والفيلسوف المصري المعاصر محمود محمد علي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، على درجة الماجستير من كلية الآداب بسوهاج ـ جامعة أسيوط (سابقا)، وصدرت في كتاب عام 1999 وأعيد طبعها ضمن مؤسسة هنداوي عام 2023. وصدّر للدراسة العالم الجليل د.عاطف العراقي مؤكدا “أننا نختلف مع السهروردي في بعض الآراء، في مجال التصوف بصفة عامة والمنطق الإشراقي بصفة خاصة، كما نختلف مع المؤلف حول بعض الآراء التي ذهب إليها، ولكن هذا لا ينفي أهمية دراسة فكر السهروردي في مجال المنطق”.
المنطق الإشراقي
السهروردي يعتبر بشهادة الباحثين صاحب مدرسة إشراقية صوفية احتلت مكانة الصدارة بين جماعة التصوف والعشق الإلهي
السهروردي يعتبر بشهادة الباحثين صاحب مدرسة إشراقية صوفية احتلت مكانة الصدارة بين جماعة التصوف والعشق الإلهي
يرى الباحث أن السهروردي المقتول يعتبر بشهادة بعض الباحثين، صاحب مدرسة إشراقية صوفية، احتلت مكانة الصدارة بين جماعة التصوف والعشق الإلهي، لما قامت به هذه المدرسة من مغامرات عرفانية سحرت بأفكارها العقلانية قلوب معاصريها وعارفيها، وصورت لهم عالم العقول، وعالم النفوس، وعالم المعاد بأسلوب حقاني عميق، أنار النفوس التواقة إلى الخلود والمشاهدة، بواسطة الانفعالات المتوترة الحية، وبالآراء الروحية المكاشفة، والقدرة الخارقة المؤثرة في مشاعر الناس وأحاسيسهم. وفي هذا يذكر شمس الدين الشهرزوري أنه كان من السابقين في الحكمة العملية، وأنه كان قلندري الصفة، وكانت له رياضات عجز أهل الزمان عنها. وكان أكثر عباداته الجزع والسهر والفكر في العوالم الإلهية، وكان قليل الالتفات إلى مراعاة الخلق، ملازما للصمت والاشتغال بنفسه.
ويؤكد أن السهروردي يتميز بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره، فتيارات متعددة، وأفكار مختلفة دينية فلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة، قد أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدا، حتى يصل إلى مرحلة الكشف والإشراق.
يصرح السهروردي في مقدمة حكمة الإشراق قائلا “وما ذكرته من علم الأنوار وجميع ما يبتنى عليه وغيره يساعدني عليه كل من سلك سبيل الله عز وجل، وهو ذوق إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون، صاحب الأيد والنور، وكذا من قبله من زمان والد الحكماء هرمس إلى زمانه من عظماء الحكماء وأساطين الحكمة مثل أنباذوقليس، وفيثاغورس، وغيرهما، وكلمات الأولين مرموزة وما رد عليهم، وإن كان متوجها على ظاهر أقاويلهم لم يتوجه على مقاصدهم، فلا رد على الرمز، وعلى هذا يبتني قاعدة الشرق في النور والظلمة التي كانت طريقة حكماء الفرس مثل جاماسف وفرشاوشتر وبوزرجمهر، ومن قبلهم، وهي ليست قاعدة كفرة المجوس وإلحاد ماني، وما يفضي إلى الشرك بالله تعالى”.
ويشير الباحث إلى أن على الرغم من هذه الأهمية التي مثلها السهروردي في تاريخ التصوف الإسلامي، وعلى الرغم من عمق فلسفته في كافة المجالات التي بحث فيها، إلا أن هناك جوانب عديدة في فلسفته لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا، بحيث يتبين لنا أثر فلسفة هذا الفيلسوف.
ومن الموضوعات التي لم تبحث بحثا منهجيا دقيقا شاملا نقده للمنطق الصوري الأرسطي نقدا أضفى عليه بعدا إشراقيا، حيث يرى بعض الباحثين أن أفكار السهروردي الفلسفية الخاصة لم تتناول أي فكرة رئيسية منها بالقدر الكافي من البحث والتحليل، وفي مقدمتها جميعا نقده للمنطق الصوري الأرسطي، فلقد أجريت بعض الانتقادات من جانب المتكلمين والفقهاء، ولكن نقد السهروردي قد جاء في اتجاه مقابل تماما، فقد أنزل المقولات العشر إلى خمس، ثم جعل من المنطق سلّما صاعدا إلى عالم الإشراق، فإذا ما تأمل القارئ تاريخ المنطق بعد ذلك في الغرب، يدرك ما لنقد السهروردي على المنطق الأرسطي من قيمة بالغة.
ويتابع أن بعض المستشرقين، من أمثال هنري كوربان وماكس هورتن وغيرهما، يقللون من أهمية الجانب المنطقي في “حكمة الإشراق”، ويركزون على الجانب الكوني الميتافيزيقي، وما الجانب الكوني الميتافيزيقي عن النور، إلا تطبيق للمنهج الإشراقي في تصور الفلاسفة المشائين للكون، بل يجعل بعض المستشرقين من أمثال لويس ماسينون من السهروردي إشراقيا كونيا ميتافيزيقيا خالصا، ويتركون جانب الحكمة ويميلون به إلى التصوف، ويخرجونه من نطاق الفلسفة والمنطق.
والحقيقة أن القسم الأول من “حكمة الإشراق” عن “ضوابط الفكر” لا يقل أهمية عن القسم الثاني عن “الأنوار الإلهية”، بل هما واجهتان لحقيقة واحدة، فالسهروردي يبدأ في القسم الأول من “حكمة الإشراق” بالبحث في أسس الفكر من حيث المعايير المنطقية، ليرى إمكانية التوصل إلى الحقيقة من خلال هذه المعايير العقلية، وعندما يجد أنها لا تفيد في الوصول إلى الحقائق الثابتة والدائمة التي ينشدها، يعمد إلى نقدها ومحاولة إصلاحها، لتصبح صالحة كمرحلة نحو عالم الموجودات الحقيقية؛ عالم الأنوار والمجردات، وهو ما يعرض له في القسم الثاني من الكتاب، حيث يتناول نظرية النور ومراتب الأنوار وما يتعلق بذلك من مباحث كونية وطبيعية.
ولذلك ﻓالسهروردي قد حاول في القسم الأول من “حكمة الإشراق”، أن ينقد بعض مباحث المنطق الصوري الأرسطي الذي عرض له في رسائله، وبخاصة رسالة “اللمحات في الحقائق” أولا، ثم يضع مذهبا منطقيا جديدا ثانيا، أو بمعنى أدق أن يختصر المنطق الأرسطي اختصارا مبتكرا ثانيا، ويسمي كثيرا من آرائه المبتكرة مباحث أو ضوابط إشراقية، بحيث يتسنى لنا بأن نطلق على مجموع تلك الآراء “المنطق الإشراقي”.
وعلى ذلك فالمنطق الإشراقي عند السهروردي هو محاولة لإصلاح المنطق الأرسطي وتخليصه من آثار المشائية التي تعني لديه الصورية الفارغة، وللتحرر من الطريق الصوري عند المشائين المتأخرين، وذلك عن طريق الحصول على تجربة روحية تعطي هذا المنطق مضمونه وتعدل في شكله، وتخليص الفلسفة أيضا من المناقشات العقيمة بين الفلاسفة المشائين من أجل إحياء الفلسفة، والعودة إلى النبع الإشراقي الصوفي.
ويشير الباحث إلى أن المنطق الإشراقي عند السهروردي قد انطلق من نزعة إنسانية شاملة ترمي إلى إحياء الحكمة العتيقة التي ما زال أئمة فارس والهند ومصر وقدماء اليونان إلى أفلاطون يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم، فحاول السهروردي من خلال حكمة الإشراق أن يجمع كل التيارات الكبرى في الفكر الشرقي واليوناني في نظام متناسق داخل الحضارة العربية، وذلك بالبحث عن منهج شامل يجمع بين الكشف والبحث، وتجلى ذلك في موقفه من المنطق الأرسطي، فقد قبله بشكل عام، وعده إحدى رياضيات المتصوفة الإشراقية، ومن ثم حاول أن يطبعه بطابعه الإشراقي، جاعلا من المنطق الأرسطي سلما صاعدا إلى عالم الإشراق، فالطريقة البحثية الخالصة مرحلة أولى تؤدي إلى التأمل المباشر في الحقائق المعقولة، وهذه الطريقة البحثية الخالصة، برغم قصورها، إلا أنها طريقة حسنة لمن لم تهبط عليه “سوانح نورانية”، لكن عقلا دون سند يسنده لا يجدر الوثوق به.
ويقول “كشف لنا المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول أن منهج الصوفية لا يتعارض مع منهج المناطقة، فمنهج الصوفية في نظره يقوم على تجاوز ثنائية الذات والموضوع، لرؤية الوحدة الكامنة خلف هذه الثنائية وخلف التعدد الظاهر من خلال النور الإلهي، ولا يعني ذلك أن الأشياء تتوحد، بل يرى العارف الوحدة كامنة وراء الأشياء جميعا، ولذا رفض اعتبار المنطق والعقل وسائط بين الذاتين الإلهية والإنسانية، وذلك لا يعني أن الصوفية قد أنكروا دور العقل والمنطق في عملية المعرفة، بل الكثير منهم أقر به، ولكن ضمن نطاق عالم الكثرة والتعدد، فالمنطق العقلي منطق كثرة وتعدد لا منطق وحدة واتصال، ولذا رأينا السهروردي، ومن بعده عبدالحق بن سبعين، يعرضان في كتبهما للمنطق الأرسطي لبيان قدرته في التوصل للحقيقة، ثم يعقبانه بالنقد عندما يتجاوز قدرته وعالمه، فهذه المعرفة لا تخضع في دلالتها ولا في طريقها إلا لاعتبار واحد هو اعتبار التجربة الداخلية. إن النزعة الإشراقية التي ينطلق منها السهروردي قد صبغت نقده للمنطق الأرسطي ببعد صوفي يتبدى من خلال محاولته دمج المنطق الأرسطي من خلال منظومته الإشراقية، وإعطائه دورا مهما ممهدا لعملية الإشراق”.
لا يعارض العقل
Thumbnail
يكشف الباحث محمود محمد علي أن السهروردي لم يبدأ مشائيا، ثم انتهى إشراقيا أو العكس بالعكس، بل إنه سار في الاتجاهين معا منذ ريعان الصبا، ثم راح أحد الاتجاهين يغلب على الآخر في سياق التأليف وهو دون الثلاثين، فبرز الاتجاه الإشراقي في الرسائل على حساب الاتجاه المشائي، وبخلاف ما حصل في الكتب الأرسطية حتى توحدا معا في “حكمة الإشراق” الذي لا يخلو من منهجية الفلاسفة وطرقهم في معالجة أبواب المنطق والميتافيزيقا، على كون السهروردي لا يباحث فيه إلا أصحابه الإشراقيين.
وقد تميز السهروردي في منطقه الإشراقي بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره؛ فتيارات متعددة وأفكار مختلفة، سواء دينية أو فلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة، أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل، من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدا حتى يصل إلى مرحلة الكشف والإشراق.
ويشدد على أن فكرة الإشراق عند السهروردي قامت على أساس من الاستدلال البحثي العقلي، وهو ما أكده السهروردي نفسه في حكمة الإشراق، حين أعلن أن الأساس الفلسفي لديه يمثل مرحلة أولى ممهدة لمرحلة الإشراق، فالإشراق يستند إلى أساس فكري ونظري، وطالبه ينبغي أن يكون قد قطع عقبات العلم والبحث.
ويلاحظ الباحث أن السهروردي لم يرفض فلسفة أرسطو والاتجاهات الفلسفية العقلية والبحثية، وإنما أبقى عليها على اعتبار أنها مرحلة أولى ممهدة للحكمة الحقيقية، ومقدمة لما يليها، وأداة العلم في هذه الفلسفة، ألا وهو المنطق، إنما يمثل مرحلة نحو عالم الإشراق، فمنطق أرسطو صحيح في عالم الكثرة، وأما عالم الوحدة فيحتاج إلى منطق آخر؛ منطق المحقق كما يسميه ابن سبعين، أو المنطق الإشراقي كما يسميه السهروردي، حيث صرح بأنه يمثل الآلة الواقية للفكر، والتي تتسم بأنها مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد، وهي كافية للذكي ولطالب الإشراق، بيد أن قصور المنطق اليوناني عن الوصول إلى المعرفة الحقة، جعل السهروردي يعمد إلى نقده، ومحاولة إصلاحه ليتلاءم مع منحاه الإشراقي.
ومن جانب آخر فإن السهروردي نظر إلى منطقه الإشراقي على أنه يمثل ناحيتين: الأولى، وهي اعتباره مرحلة ضرورية ممهدة للإشراق، يبدأ من خلاله العقل بالتمرس على المجردات والمعقولات المنطقية، ويترقى شيئا فشيئا من عالم الحس والمادة إلى عالم المعقولات والمجردات، حتى يصبح مهيأ لمعاينة الأنوار المجردة وتلقي الإشراق منها. والثانية، لما كان المنطق في طريق الإشراق، وجب تجاوزه للانتقال إلى ما بعده، ولذا كان لا بد من نقده، ومحاولة إصلاحه ليتفق مع رؤية السهروردي الإشراقية.
ومما يخلص إليه الباحث حقيقة مهمة، وهي أن السهروردي بقي مجهولا لفترة طويلة في العالم العربي، إلى أن قام الكثير من المستشرقين من أمثال هنري كوربان ولويس ماسينون وماكس هورتن وغيرهم بنشر وتحقيق الكثير من أعماله، ودراستها بشكل مفصل، وهذا ما ساعد على إلقاء الضوء على السهروردي الذي امتد أثره قرونا طويلة، وخاصة في فارس، غير أن هذه الدراسات كانت غالبا ما تركز على الجانب الإلهي من فكره المتعلق بالإشراق وفكرة النور، فتم بذلك تجاهل الجانب المنطقي من هذا الفكر، والذي تكمن أهميته في قدرة السهروردي البارعة على توظيف كل ما يقع عليه لخدمة فكره الإشراقي، بما في ذلك المنطق ذاته، وعلى هذا الأساس بنى نقده للمنطق الأرسطي، محاولا إعطاءه دورا في عملية الكشف والإشراق.