علوم الطبيعة تمر بأوقات تملؤها الإثارة والنجاح، وخصوصا العلوم الأساسية التي تسعى لاستكشاف الكون بعيدا عن ضغوطات "التطبيقات" الآنية التي يرددها البعض دون فهم عميق لطبيعة العلوم! فبعدما كتبت في الأسبوع الماضي عن احتمال الإعلان عن اكتشاف موجات الجاذبية، صدقت الأخبار وأعلن مرصد LIGO عن اكتشاف تلك الموجات؛ مؤكدا ما تنبأت به النظرية النسبية العامة (وهي النظرية العلمية للجاذبية) قبل 100 سنة! إنه بحق اكتشاف القرن كما سماه كثيرون خلال الأيام الماضية. وهو نجاح للعلوم الأساسية، وعلى رأسها الفيزياء، التي لا سقف لطموحها. وإثبات متجدد بأن العلوم الأساسية هي استثمار بعيد المدى وذو عوائد مجزية. قبل هذا الاكتشاف بثلاثة أعوام، كانت أضخم تجربة عرفها البشر - وهي تجربة المصادم الهادروني الكبير LHC في سويسرا- قد أعلنت عن اكتشاف جُسيم تنبأ به الفيزيائيون قبل ما يقرب من 50 سنة! وهي المدة التي استغرقها العلماء في البحث عنه، وصاحبَ ذلك إنفاق المليارات على مختلف التجارب ومساهمة آلاف الباحثين والفنيين. هذه الاكتشافات تمثل التناغم بين النظرية والتجربة في علوم الطبيعة، وخصوصا الفيزياء. وهي تأكيد لمتانة النظريات الفيزيائية وعلوّها على مفهوم التنظير المستخدم في مجتمعنا والذي يرتبط بالتخمين أو ما لا فائدة منه. فالنظريات الفيزيائية هي وصف دقيق للطبيعة في نطاق محدود -وغالبا ما يكون نطاقا لا يتصوره العقل لاتساعه-، وتنبؤاتها في ذلك النطاق صائبة، ولا يهزها إلا اكتشاف جديد يرسم لنا حدود تلك النظريات، فيعمل العلماء لاكتشاف امتدادات للنظرية قادرة على تفسير الظواهر الجديدة. وأما التجربة، فإن كثيرا من العلماء يفنون عقودا من أعمارهم لمحاولة ابتكار التجربة المثلى لتأكيد تنبؤات النظريات، أو اختبار فرضيات قد تصبح امتدادا يأخذ النظريات إلى نطاق جديد، أو اكتشاف شيء جديد لم يخطر ببال أحد ولم تتنبأ به نظرياتنا. وهناك تجارب ضخمة في حجمها وفي متطلباتها المالية والبشرية والتقنية. وأخرى لا تحتاج سوى معمل صغير، ولكنها قد تكون معقدة وتستغرق سنوات للوصول لهدفها. وفي كل الأحوال، لا يوجد ضمان بأن ما ينفق عليها سيتحول بالضرورة إلى اكتشافات. وحتى وإن توصلنا إلى اكتشافات فليس بالضرورة أن تتحول إلى تطبيقات عملية في التو واللحظة. مع ذلك فإن القيمة المعرفية للعلوم هي ما يبرر دعمها والاهتمام بها، ولأن عوائدها المستقبلية -ومنها التطبيقية- قد تكون ضخمة ومؤثرة في حياة البشر. وهناك جانب تقني (وأعني علوم الحاسب) يسهم في تطوير العلوم وتسهم العلوم في تطويره. مثلا: الويب. وهو الذي نشأ في المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات -الذي تجري فيه تجربة LHC-، فمخترع الويب كان باحثا مهمته أن يطور طريقة مناسبة لاستخدام الانترنت تسهل التواصل بين العلماء ونقل المعلومات فيما بينهم داخل المعمل. وانظروا الآن إلى فضل الويب على حياتنا! أعود للاكتشافات لأقول إن ما اكتشف خلال الفترة الماضية ما هو إلا بداية الطريق. فهناك عشرات التجارب الضخمة التي ما زالت تعمل، وأخرى ما زالت قيد التخطيط والبناء حول العالم. وكلها تسعى لدفع معرفة الإنسان بالطبيعة والكون لأقصى حد. إن ميزة العلوم هي أنها بيئة للتحديات التي تقود للإبداع والابتكار على المستوى النظري العلمي والتجريبي والتقني والرياضياتي. ولا يمكن لأحد أن يتصور ما هي الاكتشافات والابتكارات التي سنصل إليها مستقبلا في تلك المجالات، أو حجم تأثيرها في حياتنا. العلوم ما زالت بخير، وتنتظر عقولا مبدعة لتساهم في الكشف عن أسرار الطبيعة والكون! mbinjonaid@outlook.com Twitter: @maienbinjonaid
مشاركة :