في عالم كرة القدم هناك كشافو مواهب، وهؤلاء يعملون بصمت دون ضجيج، في الخفاء دون فلاشات، يتعبون ويبذلون جهداً شاقاً في تتبع اللاعبين الصغار في الملاعب الترابية القابعة في ساحات الحارات، وإن اندثرت هذه الملاعب الترابية الآن وأصبحت كل الملاعب مزروعة، أو ذات عشب صناعي، لكن ليس هذا مبحثنا هنا، يواصل الكشافون مهمتهم العظيمة للبحث عن النجوم، ثم رفعها من أرض التجاهل إلى سماء الاهتمام. في الأدب نحن بحاجة إلى استنساخ هذه الفكرة، نحتاج الناقد الكشَّاف النشيط، الذي يتعب في البحث عن المواهب الأدبية، عن شاعر وقاص وروائي تنام كتبهم غير قريرة الصفحات على أرفف الإهمال، نحتاج الناقد الذي ينفض الغبار عن هذه الإبداعات المهمَلة، يقرؤها ثم يقدمها للساحة الأدبية، ويشير إليه ويقول: هذه إبداعات وهؤلاء مبدعون، فاحتفلوا بها وبهم يا أهل الأدب. لكن ومع أطنان من الأسف، فإن كثيراً ممن تعج بهم ساحة النقد هم من فئة النقاد الكسالى - والمجاملون أحياناً - الذين ينامون أغلب السنة، ويستيقظون فقط عندما يصدر أحد الأسماء المعروفة أو المشهورة عملاً أدبياً، فيتثاءب صاحبنا حينها ويتمطى، ثم يتناول العمل وغالباً يمدحه ويصل به عنان المدح! هؤلاء لا يحبون إتعاب عيونه في البحث عن مواهب جديدة، ربما لأن لياقة عيونهم لم تعد تسعفهم، اللهم إلا للتحديق في الكاميرات في تلك الفعالية وتلك المناسبة. سيغضب هؤلاء الكسالى وسيقولون دفاعاً عن كسلهم الجملة ذائعة الصيت: (إن العمل الجيد هو الذي يفرض نفسه) فنرد عليهم ونقول: وكيف يفرض نفسه والمساحات النقدية التي تستولون عليها موصدة أمام هذه الأعمال؟ فأنتم تشحنون هذه المساحات بإنتاج الأسماء المعروفة، سواء كانت جيدة أو متوسطة المستوى أو حتى سيئة! ثم تعالوا هنا: أليس الناقد الجاد المخلص هو من يأخذ زمام المبادرة والذهاب للأعمال الجيدة؟ أليس الناقد هو من يقدم نفسه للناس على أنه الذي يعرف العمل الجيد من السيئ؟ إذن تفضل يا مولانا وابحث وافرز، واترك عنك الحديث عن الكتب التي تُهدى إليك! الناقد الجاد هو الذي تذهب إلى الأعمال، لا الذي ينتظرها أن تأتي إليه. لكن دور الناقد الكشَّاف دور غير مغرٍ للعبه، وذلك لأنه لا يحقق للنقاد الظهور الذي يطمحون إليه، والذي يجدونه عندما ترتبط قراءاتهم النقدية باسم مبدع مشهور ومعروف، فهم أيضاً - النقاد- لديهم أجندة مخفية لحب الظهور من خلال ممارسة النقد. هل يجب أن يصل المبدع إلى الناقد أم أن يصل الناقد إلى المبدع؟ في رأيي أنه يجب على كليهما الاجتهاد والتعب للوصول للآخر، المبدع من خلال تعبه في تقديم عمل رائع، والناقد من خلال تعبه في قراءة كثير من الأعمال للوصول إلى عدة أعمال رائعة. هل هناك نقاد يقرؤون مائة رواية للوصول إلى خمس روايات رائعة؟ الله أعلم! من المفترض على الناقد إذا وضع أمام اسمه هذه الصفة وهذا اللقب أن يدفع ضريبة هذه الصفة وهذا اللقب، وأن يلبس نظارته ويقرأ ويقرأ ويقرأ، أن يُتعب عينيه في القراءة، لا أن يتعب لسانه فقط في الحديث عن أعمال جاهزة اشتهرت والكل يعرفها. سيقول أولئك الكسالى نحن لا نستطيع قراءة كل ما تلفظه طابعات دور النشر، فالعدد كبير، سنقول لهم اختاروا عينات عشوائية من دور نشر مختلفة واقرأوا، إن كنتم تضجرون من القراءة وترون أن ذلك عملاً متعباً فاتركوا هذا المجال، النقد هو القراءة أولاً وتاسعًا، وعاشراً هو الكتابة عن هذه القراءات. كثير من النقاد انشغلوا بتلبية الدعوات وحضور الفعاليات على حساب وقت القراءة لديهم، وهو الوقت الأهم لهذه المهنة.
مشاركة :