كتب غسان كنفاني في العام 1958 حين كان مقيماً في الكويت قصة قصيرة بعنوان الأفق وراء البوابة تتحدث عن شاب فلسطيني يأتي من يافا إلى القدس ومعه سلة يتضح أن فيها بعض اللوز الأخضر، ورداء أخضر، هو رداء أخته دلال ذات السنوات العشر التي قتلها اليهود بالرصاص. يعود علي بطل القصة إلى يافا ولا يقوى على مكاشفة أمه بأمر مقتل دلال، ولكن عند بوابة مندلبوم يفصح لخالته عن كل شيء باقتضاب ودموع، وعند البوابة تنكشف الحقيقة ماتت دلال، وماتت أمه، وبقيت سلة اللوز والرداء الأخضر. هذه دائماً روح غسان كنفاني في الكتابة.. روح الفلسطيني الذي يغتاله الموت، ولكنه، دائماً المسكون بالأمل. تعود هذه القصة المبكرة في تجربة كنفاني إلى أكثر من نصف قرن، أي بعد خروج الفلسطينيين من أرضهم في 1948، ولكنه لم يكتبها في يافا، بل كتبها في الكويت، أي أن ذاكرته كانت مشحونة بأرضه وأهله خارج المكان، إدوارد سعيد أيضاً كان خارج المكان، وفي بيروت كان غسان كنفاني خارج المكان، ولكنه كان في قلب يافا في شكل من أشكال البقاء البطولي في فلسطين رغم أنها في قبضة الاحتلال.. وفي شكل من أشكال العناد أيضاً، والمقاومة الشرسة والتحدي الشرس بالعمل السياسي والعمل الأدبي كأنه يحمل بندقيتين (الآن اختفت البنادق وكثرت الفنادق في حالة الاحتضار الفلسطينية على حد وصف محمود درويش). كانت قوة غسان كنفاني تكمن في شخصيته السياسية والثقافية الكاريزمية، إنها قوة الكاتب المسلح بقضية ويعرف أنها قضية حق ويجب استعادته، كما تكمن قوته في ثقافته التي تصب في نقض الاحتلال ومحاصرته تماماً بالكتابة والأدب والفن، وهي العناصر الإنسانية الحضارية الغائبة بالمطلق عن الفكر الدموي الذي يؤمن به الصهاينة، ولذلك جندت إسرائيل فرقة اغتيال تسللت إلى بيروت وفجّرت غسان كنفاني بسيارته وكانت معه ابنة أخته. اللافت في هذه القصة أن بطلها علي عاد من يافا إلى القدس وقد استشهدت أخته ذات العشر سنوات، وبعد أعوام من كتابة هذه القصة يستشهد كنفاني، وإلى جوار جثته طفلة أيضاً في زهرة عمرها. هل هي نبوءة الكاتب؟.. لا، فلم تكن شخصية كنفاني الثقافية والسياسية من نوع تلك الشخصيات الأدبية التي لا تكف عن التبجح بما يسمى التنبؤ والتوقع.. فكل شيء متوقع عند كتاب مرحلة غسان كنفاني الفلسطينية.. اغتياله كان متوقعاً في ضوء بطولته وشجاعته التي أرعبت الكيان الإسرائيلي، واغتيال ناجي العلي كان متوقعاً وهو يسخر من الترهل السياسي الفلسطيني، وموت معين بسيسو وحيداً في فندق كان متوقعاً وهو يحرق أعصابه بالكتابة، وموت علي فوده في بيروت كان متوقعاً وهو يوزع الرصيف على الرصيف في 1982 حيث اجتياح واحدة من أجمل المدن العربية. كان غسان كنفاني يعلم الرسم، واشتغل في الصحافة وغذّى شجرة الكتابة الفلسطينية بالكثير من الأعمال الأدبية سواء في الرواية أو في القصة وكل ذلك، في حياة طولها 36 عاماً فقط. يقال إن عمر الإنسان يقاس بما عاش، أي بما ترك من تراث إنساني عظيم، وغسان كنفاني حي بتراثه إلى اليوم منذ أن ولدها في عكا عام 1936. yosflooz@gmail.com
مشاركة :