الفنانة سلوى العايدي تغوص في 'العالم الغرائبي' بلوحاتها

  • 5/14/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تعد الدكتورة سلوى العايدي الأكاديمية والفنانة التشكيلية التونسية أحد الوجوه المهمة في مجال الحفر الفني العربي، وهي تساهم من خلال أعمالها، وما تعده من دراسات، وما تكتبه من بحوث، وما تشارك في تنظيمه أو حضوره من مؤتمرات وندوات، في التعريف بهذا الحقل الفني الذي يبدو أنه لم يأخذ حقه من الظهور في العالم العربي، والنهوض به وتطويره تونسيا وعربيا. ولـ"العايدي" الكثير من الدراسات والبحوث والمقالات الأكاديمية في مجال علوم وتقنيات الفنون، والفن التونسي المعاصر، وبجانب مشاركتها العربية والدولية الواسعة في المؤتمرات والمعارض والملتقيات المعنية بالفنون التشكيلية، ونالت عددا من التكريمات والجوائز المحلية والدولية، وحظيت أعمالها الفنية باهتمام النقاد والباحثين الذين تناولوا أعمالها بالبحث والدراسة. وتُعرف الفنانة سلوى العايدي باهتمامها من خلال أعملها الفنية في مجال الحفر بالتأمل في موضوع الجسد الأنثوي، بمختلف تكويناته وتركيباته ووضعياته، وقد اختارت لها مدرسة خاصة تُطلق عليها اسم "العجائبي" و"الغرائبي" وهي مدرسة موازية للمدرسة السريالية، لكن العايدي اختارت كلمات من اللغة العربية الغنية الثرية بديلا عن السريالية، ولعلها هُنا تبدو منحازة لثقافتها وتراثها العربي. وحققت العايدي نجاحا لافتا في اهتمامها بالخطوط الغرافيكية في أعمالها، وأبحرت بتعمق في عوالم البشر والحيوان، خالقة حالة من الهواجس باستخدام تقنيات بصرية كانت فيها الأقرب إلى التجريد والإيحاء والترميز، وفي كل ذلك وبحسب كتالوغ الدورة الخامسة عشرة من ملتقى الأقصر الدولي للتصوير تميل إلى الرسم الطفولي محاولة التعبير عما يجيش بداخلها بلا قيود، ولعل ذلك يبدو جليا فيما تطلقه من مسميات على أعمالها الفنية مثل "الخيال الطيفي" و"الذاكرة الطيفية"، في ظل ترميزات تشير إلى أن الإنسان بات يصارع نفسه ويخيفها، وهكذا تتوالى أعمال الفنانة سلوى العايدي لتنقلنا من عالمنا المعاش إلى عوالم وحيوات أخرى. الزمن العجائبي وفي مجموعتها "صدى" نجد حضورا قويا لموضوعات "الزمن العجائبي" وعالم "الأشباح الطيفية"، حيث أجادت سلوى العايدي توظيف قدرتها التخيلية كمحرك لتحرّر العملية الإبداعية لديها من المرئي، في مسعى منها لتأسيس ممارسة تشكيلية خاصة تعتمد على "سَفَر الذّات نحو الماضي عبر بوابة الحاضر" في محاولة لاسترجاع الغائب، وهنا تكون اللوحة نتاج ما يشبه الحلم والرؤية والتذكر، "فتنفلت معها صورة العمل الفني من أيّ عقال ومن أيّ سلطة وقانون، لتكشف بالضرورة معاشرة اللامرئي فينا، فتضفي بذلك اللوحة جوا من الحلم ومن الغرابة"، وذلك وفقا لقولها. وهكذا يكون للزمن العجائبي تصور ذهني في جُلّ لوحات مجموعة "صدى"، بشطحات الخيال والهوس وقول السري والحميمي والداخلي، ليهيمن ما يوصف بالزمن الكابوسي على العديد من التصورات التشكيلية الحالمة التي تدور في فلك مدارات من الرؤى المتجاوزة للواقع بكل وقائعه وبكل ثقله، وهنا تبرز النزعة الغرائبية لدى العايدي بشكل لافت. والكثير من لوحات مجموعة "صدى" هي بمثابة عتبة للولوج إلى عالم "العجائبي"، والعجائبي هنا في علاقة بمصطلح الغرابة، كما يرتبط بعالم من الكوابيس والأشباح والمقابر، وحالة من القلق والخوف والوحدة والعزلة والتوحش. وتتسم أعمال العايدي ببعض ما تتسم به الخرافة من إغراق في الخيال، زمن أسطوري، زمن العود السرمدي وزمن الحلم، فليس بمقدور المتلقي أن يتبين خداع هذه المنحوتات المحفورة إلا بعد أن يغادر هذه الدكاكين فتتبدد الأوهام. ولقد اكتسى الباب صبغة رمزية يفصل بين عالمين مختلفين، بين الداخل والخارج، باب يوحي بوجود عالم آخر مخيف وخطير، يفتح على الرعب والهلع، دكاكين ارتبطت بالمكان الخاوي وبالوحشة، وبالعوالم الشبحية الطيفية، فيستسلم المتلقي لخيال الفنانة بإرادته. وقد جاءت هذه المنحوتات في تلك المجموعة موشاة بقرافيزمات محفورة، والوشي متعلق بالنمنمة والتزويق والمظهر الخلاب والكذب، فالوشي يصف الكلام الخادع، يقال وشى كلامه أي كذب، والوشي في علاقة مباشرة بالترقيش أي بتحسين الكلام وتزويقه، ورقش فلان كلامه أيّ زوره وزخرفه، يقول الحريري "صناء الإنشاء مبنية على التلفيق، أي على الزخرفة والتمويه والكذب والبهرجة الفارغة والبريق الخادع"، ولعل ذلك يذكرنا بالسرد "فالسرد مرتبط بالحيلة، ويلجأ إليه عادة من يكون في موقف حرج في موقف من لا يستطيع بسط حاجته مباشرة، فيستعين باللف والدوران ويحيد عن الطريق السوي ليسلك طريقا ملتويا"، فيتواشج داخل هذه التنصيبة عنصر الزمان والمكان، فالمكان والزمان شريكان ضمنا لنا عنصر التردد باعتباره محور العجائبي، وذلك من خلال إغراق الفضاء بالأحداث العجيبة والغريبة التي تبث الحيرة والتردد في نفس المتلقي، "روح المكان" اتسم باللاحسم وفقدان اليقين والتأرجح، وهو مصطلح "يشير إلى النسيج غير المرئي من الثقافة يظهر في القصص والفنون، ويماثل هذا المصطلح للإيحاء بوجود كائن ما وراء طبيعي صغير مثل الجني أو الجنية أو العفريت، كما استخدم هذا المصطلح أيضا للإشارة إلى تلك الروح الهائمة في المكان، أو الشبح الذي ينتاب هذا المكان"، عالم العجائبي، عالم الأموات، أشباحهم تتراقص فوق المقابر، وأصوات تتعالى من شقوق التراب، وينفلت الزائر من شرك الواقع وعوائق المادة لمعانقة المطلق عن طريق الكشف الشعري، إننا هنا في عالم غيبي ما ورائي، عالم الرؤيوي والغريب والغامض.        وكأن الفنانة سلوى العايدي تقول لنا عبر لوحات مجموعة "صدى" بأن الفنان كالبؤرة الضوئية تتجمع فيها أشعة يكاد من المستحيل على من هو خارج البؤرة أن يتبين مصادرها، وأن يحصر مداها، وأن يدرك أثرها ومقدارها، ولعل لبعض هذه الأشعة سبلا ملتوية، ومسارب خفية لا تستبين للمتلقي إلا عند أطرافها البعيدة، ويبقى الزمن فرصة لملامسة الجوانب القابعة في أعماقنا والتي باتت تقضي مضجعنا.   وخلال مشاركتها بالدورة الخامسة عشرة من ملتقى الأقصر الدولي للتصوير - بصعيد مصر – قدمت العايدي في عملين تشكيليين مجموعة أجساد وسط دوائر تتشابه في الحجم، مستخدمة تأثيرات ورموز مستوحاة من الخيال الخصب لديها، وهي رموز وعلامات ذات علاقة بمصادر الإلهام والعوالم الفنية الخاصة بها، والمفردات ذات الصلة بالمعتقدات الخرافية التي حملت معها إشارات ربما ترمز للتحرر من القيود، بما في ذلك التحرر من الطرح التقليدي المعتاد في تناول الموضوعات التشكيلية، وتجاوز ذلك عبر خلق رؤى بصرية مغايرة. الجسد والإيروسية ‏وننتقل من عوالم الغرائبي في أعمال سلوى العايدي إلى موضوع آخر يعد من الموضوعات الأكثر حضورا في لوحاتها، وهو موضوع الجسد الذي لفت أعين النقاد الذين تابعوا أعمال العايدي وكانت الأكاديمية والفنانة التشكيلية التونسية الدكتورة نجاة الذهبي من أوائل من تنبهوا لأهمية "الجسد" في الحفريات الفنية لسلوى العايدي. حيث رأت الدكتورة نجاة الذهبي من خلال دراسة متأنية لها نشرت ضمن كتاب "مقاربات نظرية في الحفر الفني العربي" - الذي صدر في تونس بدعم من صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني بوزارة الثقافة التونسية وحملت عنوان: قراءة في تجربة حياة وفن سلوى العايدي - أن العايدي لا تعمل بعيدا عن أرقها ومسارها اليومي، بل تضع كل حكاياتها، أو حكاياتنا كما تقول هي نفسها نصب أعين المتلقي وتترك باب القراءات مفتوحا إلى النهاية وأعتقد أنها أحد أولئك "النادرين" الذين يستمر جمالهم حتى النهاية كما يقول المخرج الروسي العبقري أندري تاركوفسكي. وتشير الذهبي إلى أن سلوى العايدي اشتغلت لأكثر من عامين على مجموعة حفرية فنية تحت عنوان "ابتزاز أيروسي" - نسبة إلى "إيروس" إله الحب والرغبة والجنس في الميثولوجيا اليونانية - عالجت خلالها الموضوع الأكثر جرأة "الجسد" والإيروسية الذي سبق للكثير من الفلاسفة والمفكرين التطرق إليه كتابة، وكان هاجسها الأكبر في مجموعتها تلك الإصغاء إلى ذلك النداء الخفي لممارسة الحفر وللتفكير فيه بطرق مختلفة من منظور اجتماعي ومن داخل نسق الإنتاج الذاتي للحفر في الشخوص والأجساد. ولعل طرح سؤال تجليات "كل إيروسي" أو في علاقته بصورة الجسد الاجتماعي والذكوري، ثم في علاقته بالمفاهيم الرئيسية مثل الجسد والعري والجنساني والوطء والأنثوي، يستبطن فهما يُسائل ما أسمته بدورها "ابتزاز إيروسي"، حيث تحمل كلمة ابتزاز كل ذلك العنف المسلط على الجسدي فينا تجعلنا نتحرى حول كل تلك الأجساد المقهورة والصارخة داخل محفورتها. واعتبرت الدكتورة نجاة الذهبي أن الحفر لدى سلوى العايدي يقع في تلك المنطقة الحيوية التي ما تزال مع ذلك مجهولة في كثير من نواحيها، تلك المنطقة الإنسانية التي توجد بين "الجنس" باعتباره إرادة للعطاء جامحة وبين "الفكر" باعتباره إرادة للغزو والتملك. لقد استحضرت التاريخ في أجساد متحولة ومنتصبة تماما كما رسمها الأولون غير عابئين بمثالية الخط أو اكتماله. وتنفي سلوى العايدي أن تكون شخوصها المحفورة واقعية غير أنها لا تفصلها من فكرة عنف الواقع، لذلك تغير من شخوصها في حلقات متواصلة لتجعل الجانب المتوّل الغامض هو طابع صورها. كوابيس الحياة الإنسانية وتعود العايدي على أطروحة أساسية في نظرة البشرية إلى الإيروس مفادها أن وحده الإنسان هو من جعل الفعل الجنسي نشاطا إيروسيا يتحدد بالمتعة والشبق غير المشروطين. وتعبر بمقتضى ذلك عن حيوية الحياة وتجلياتها ولكنها تستدعي مقابل كل تلك الحيوية صورة العنف الأبدية، تلك الصورة التي شبهها الفيلسوف الفرنسي جورج باطاي بتجربة التكسر والتحطم من حيث هي تكثّر للاستمرار وللخطاب، والجسد، فالاستلذاذ والنشوة هما نوع من الموت في الغريزي، أو ما يعبر عنه بالانتهاك الإيروسي للمحرمات، والرغبة الإيروسية هي الرغبة التي تغالب المحترم والتي تفترض كما يقول جورج باطاي معارضة الإنسان لنفسه. وهكذا حاولت الفنانة التشكيلية التونسية سلوى العايدي الكشف عن كوابيس الحياة الإنسانية وسرها، عبر رؤية مفادها أن الإيروس يحمل في ثناياه بذرة القلق، كما أن الحب يحيا في القلق لأنه يعنى بسر الزمان والأبدية. بقي أن نشير إلى ما أكدته الدكتورة نجاة الذهبي في رؤيتها لأعمال سلوى العايدي بأن الحفريات الفنية لـ"العايدي" لذلك تدور مفاهيمها حول "إثبات الوجود الحي"، أو ما يطلق عليه بـ"التسامي من الجزئي إلى الكلي"، والانطلاق من المحدود إلى المطلق والبحث عن المعنى في رفض القوانين الخارجية للعالم وتلمس القانون الداخلي للحياة الإنسانية.

مشاركة :