أحيا الفلسطينيون في جميع أنحاء العالم يوم أمس ذكرى المناسبة المأساوية، المعروفة باسم «الكارثة»، عندما تم تحويل ما يقرب من 800000 فلسطيني إلى لاجئين وتم تطهير ما يقرب من 500 بلدة وقرية عرقيا من سكانها في فلسطين التاريخية بين أواخر عام 1947 ومنتصف عام 1948. استمر تهجير فلسطين عدة أشهر أخرى لعدة سنوات بعد أن كان من المفروض أن النكبة قد انتهت، لكن النكبة لم تنتهِ قط. فحتى يومنا هذا، لا تزال المجتمعات الفلسطينية في القدس الشرقية، في تلال الخليل الجنوبية، وفي صحراء النقب وأماكن أخرى، تعاني من عواقب سعي إسرائيل إلى تكريس التفوق الديموغرافي والتصدي للنمو الديمغرافي السريع. وبالطبع، لا يزال ملايين اللاجئين عديمي الجنسية محرومين من الحقوق السياسية وحقوق الإنسان الأساسية. في خطاب ألقته أمام «مؤتمر الأمم المتحدة العالمي لمناهضة العنصرية» في عام 2001، وصفت المفكرة الفلسطينية، الدكتورة حنان عشراوي، على نحو ملائم، الشعب الفلسطيني بأنه «أمة أسيرة رهينة النكبة المستمرة». وصفت الدكتورة حنان عشراوي في معرض حديثها عن هذه «النكبة المستمرة» بأنها «أكثر أشكال التعبير تعقيدًا وانتشارًا عن استمرار الاستعمار والفصل العنصري والعنصرية والإيذاء». هذا يعني أنه لا يجب أن نفكر في النكبة كحدث في الزمان والمكان فقط. على الرغم من أن التدفق الهائل للاجئين في عامي 1947 و1948 كان نتيجة مباشرة لحملة التطهير العرقي الصهيونية كما تم وضعها في «خطة دالت»، إلا أن هذا الحدث كان إيذانًا رسميًا بحدوث نكبة أكبر، والتي استمرت حتى يومنا هذا. «خطة دالت»، أو الخطة «د»، بدأتها القيادة الصهيونية ونفذتها المليشيات الصهيونية بهدف إفراغ فلسطين من معظم سكانها الأصليين. لقد نفذ الصهاينة تلك الخطة بنجاح، بينما مهدوا الطريق لعقود من العنف والمعاناة التي تحمَّل الشعب الفلسطيني العبء الأكبر منها. في الواقع، فإن الاحتلال الإسرائيلي الحالي ونظام الفصل العنصري الراسخ في فلسطين ليسا مجرد النتائج المقصودة أو غير المقصودة للنكبة، بل هي مظاهر مباشرة لنكبة لم تنتهِ أبدًا. من المعترف به على نطاق واسع، وإن لم يتحقق للأسف، أن اللاجئين الفلسطينيين، بغض النظر عن الأحداث المحددة التي أدت إلى تهجيرهم القسري، يتمتعون بحقوق «غير قابلة للتصرف» بموجب القانون الدولي. فقرار الأمم المتحدة رقم 194 يجعل من المستحيل على إسرائيل قانونا أن تنتهك هذه الحقوق. في الواقع، ينص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (III) لعام 1948 على الآتي: «وجوب السماح بالعودة- في أقرب وقت ممكن- للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات والسلطات المسؤولة». وبما أن إسرائيل هي الحكومة المسؤولة، فقد تحركت تل أبيب بسرعة للنأي بنفسها عن أي لوم أو مسؤولية. فالملفات «السرية للغاية» التي استعادها باحثون إسرائيليون ونشرتها صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، تتضمن ملفًا باسم GL-18/17028. توضح الوثيقة كيف حاول ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، «إعادة كتابة التاريخ» بعد فترة وجيزة من اكتمال المرحلة الأولى والرئيسية من التطهير العرقي لفلسطين. ولتحقيق هدفه، اختار بن جوريون أكثر الاستراتيجيات فاضحة: إلقاء اللوم على هروب الفلسطينيين المزعوم على الضحايا الفلسطينيين أنفسهم. لكن لماذا يهتم الصهاينة المنتصرون بالقضايا التي تبدو تافهة كروايات؟ كتبت صحيفة ها آرتس الإسرائيلية تقول: «مثلما صاغت الصهيونية رواية جديدة للشعب اليهودي في غضون عقود قليلة، فقد أدرك (بن جوريون) أن الأمة الأخرى التي أقامت في البلاد قبل ظهور الصهيونية ستسعى أيضًا إلى صياغة رواية تاريخية خاصة بها». هذه «الأمة الأخرى» هي بالطبع الشعب الفلسطيني. وهكذا، فإن جوهر الرواية الصهيونية حول التطهير العرقي لفلسطين، كان مبنيًا على الادعاء المدمر بأن الفلسطينيين قد غادروا «باختيارهم»، على الرغم من أنه أصبح واضحًا للصهاينة أنفسهم أنه «فقط في عدد قليل من الحالات غادر سكان القرى بناءً على تعليمات قادتها (المحليين) أو المخاتير». ومع ذلك، حتى في هذه الحالات القليلة المنعزلة، فإن البحث عن الأمان في مكان آخر خلال أوقات الحرب لا يزال يعد جريمة، ولا ينبغي أن يكلف اللاجئ حقه غير القابل للتصرف. إذا أصبح المنطق الصهيوني الغريب هو المعيار في القانون الدولي، فإن اللاجئين من سوريا وأوكرانيا وليبيا والسودان وجميع مناطق الحرب الأخرى سيفقدون حقوقهم القانونية في ممتلكاتهم والمواطنة في أوطانهم. لكن المنطق الصهيوني لم يكن يهدف فقط إلى تحدي الحقوق القانونية أو السياسية للشعب الفلسطيني. لقد كان جزءًا لا يتجزأ من عملية أكبر عرفها المثقفون الفلسطينيون بالمحو: التدمير المنهجي لفلسطين وتاريخها وثقافتها ولغتها وذاكرتها، وبالطبع شعبها. انعكست هذه العملية في الخطابات الصهيونية المبكرة، حتى قبل عقود من إفراغ فلسطين من سكانها، حيث كان يُنظر إلى وطن الشعب الفلسطيني بشكل خبيث على أنه «أرض بلا شعب». إن إنكار وجود الفلسطينيين تم التعبير عنه مرات عديدة في الخطاب الصهيوني وما زال يستخدم حتى يومنا هذا. كل هذا يعني أن 75 عامًا من النكبة المستمرة وإنكار وجود الجريمة الشنيعة من قبل إسرائيل وداعميها يتطلب فهمًا أعمق بكثير لما سقط ومازال يصيب الشعب الفلسطيني. يجب على الفلسطينيين الإصرار على أن النكبة ليست نقطة سياسية واحدة يجب مناقشتها مع إسرائيل أو المساومة عليها من قبل أولئك الذين يزعمون أنهم يمثلون الشعب الفلسطيني. كتب المؤرخ الفلسطيني الشهير سلمان أبو ستة يقول في إشارة إلى النكبة وحق العودة للاجئين الفلسطينيين: «الفلسطينيون ليس لديهم أي التزام أخلاقي أو قانوني لاستيعاب الإسرائيليين على نفقتهم الخاصة. إن إسرائيل ملزمة بكل المقاييس بتصحيح الظلم الشنيع الذي ارتكبته». في الواقع، فإن النكبة هي قصة فلسطينية شاملة عن الماضي والحاضر والمستقبل أيضًا. إنها ليست مجرد قصة ضحية، بل هي قصة صمود فلسطيني - صمود - ومقاومة. إن النكبة هي القضية الأكثر توحيدًا التي تجمع جميع الفلسطينيين معًا، بعيدًا عن قيود الفصائل أو السياسة أو الجغرافيا. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن النكبة ليست تاريخًا واحدًا. إنها القصة كلها التي ستكتب خاتمتها هذه المرة من قبل الفلسطينيين أنفسهم. { أكاديمي وكاتب وصحفي
مشاركة :