يقول المعلم ورجل الكشافة الأميركي فوريست ويتكرافت المتوفى عام 1967: «بعد مئة عام من اليوم، لن يكون من المهم أي نوع من البيوت سكنت، أو من السيارات قدت، أو من الأرقام كان حسابي المصرفي. كما لن يكون مهماً أية علامة تجارية ارتديت. بعد مئة عام من اليوم لن يكون مهماً معرفة أية مدرسة كانت مدرستي، أو لأي بيت عبادة كانت زيارتي، أو أية آلة كاتبة كان اقتنائي. ولكن بعد مئة عام من اليوم، العالم كله قد يكون مختلفاً، أو أفضل بقليل، لأنني كنت مهماً يوماً في حياة طفل». إنها الحكمة التي على الإنسان تذكّرها أياً كان موقعه ومهمته، إن كان المربي في المدرسة أو القاضي في المحكمة، أو الأب أو الأم، أو أي مسؤول ستطاول قراراته حياة طفل ما، في مكان ما. إن بشكل مباشر أو ببعض الالتواءات والانحناءات. وكل إنسان ملزم بالتعامل الجيد المدروس مع الطفل. فلعل حركة أو لفتة أو موقفاً تفتعله مع هذا الطفل أو يصادف مرورك فيه، ويُحدِث أكبر الأثر في حياته لاحقاً. حياة بطولِها وتفرّعها يتحدد مصيرها كله بسبب تلك الصدفة. نعم إلى هذا الحد، وكفانا جهلاً وأنانية في علاقتنا بالأطفال على اعتبارهم لا يعقلون. فهذا الذي لا يعقل اليوم سيكبر وتتكوّن شخصيته وأفكاره وعاداته ويرتد عليك بعقله الذي أضعفته بضعفك، ونخرت به حين لم تراعِ ولم تهتم أن تكون له القدوة. وهذا وحده ما يهم بعد سنين من الآن. فلن نتذكر من تكون، ولكن امتدادك سيحكي عنك. وكل طفل مر في طريقك وكنت له البصمة. تذكّر هذا الشيء في المرة المقبلة وأنت تنهر طفلاً وتعنِّفه، وتقلل من شأنه، وتتخذه مادة تُشبع فيه نقصك وجنونك. فما ذقته طفلاً لا تمرمر فيه حلق طفل آخر. نحن لا يعنينا كثيراً وقعُ تصرفاتنا وسلوكياتنا على الأطفال. فهم في نظرنا لا يستحقون كل الحيطة. «مجرد صغار إذا شبّوا التفتنا إليهم». هكذا نعلِّقها في عقولنا. ولا ندري -أو ندري ونتغافل عما ندري- أننا وكما نرعى النبتة الغضة ونحيطها بالحنان والاهتمام والمعرفة، كما ستكون عليه إذا يبست وتشعّبت. فنهمل اليوم لأننا متفرغون لانتظار الغد. فنضيّع ما بأيدينا على أمل ما سنحصل عليه. فمن سوّغ وبرر لنا التفكير المؤجل؟ حتى وقعنا في خسارتين: العمر والابن. وكل قرار نتخذه ويمس حياة طفل وأطفال لو تأملنا فيه. وكل استغراق يلهينا عن أولوياتنا سيؤثر فينا بالتعب كباراً. ولكن من سوء حظ المرء ونكد عيشه، أنه ينسى الحاضر، وينصرف همه وتطلعه إلى الآتي. فماذا قدّمت لأطفالك حتى تصل معهم لتصورك الذي تخيّلته عنهم؟ بماذا ضحيت كي ترفعهم وتستحق الأماني التي تداعب آمالك عن أحوالهم وهم فوق؟ وهذا ما لا أفهمه! حين تعقد المقارنات بين أبوين لم يقصّرا في بناء العلى لأبنائهما بكل إمكاناتهما المتاحة، وأحياناً غير المتاحة، وبين أبوين لم ترتقِ تربيتهما أكثر من المستوى العادي أو أدنى منه بكثير. ثم وبعد حين، وبعد أن يتفرّق الأبناء وكل يسلك طريقه، تسمع ممن فرط ولم يتكلّف، وهو يندب حظه على من ارتكن إليهم وأمل فيهم فلم يجدهم. وكيف أن فلاناً وعلاناً كان محظوظاً بأبنائه. حسناً أيها الشاكي، فأنت كما أراك لم تقدِّم ما بلغه غيرك في التربية والسهر واحتياطات الأمان، ولكنك تنتظر أن تتنعّم بنتائج كمن قدّم وضحى. فمن صور لك هذا؟ فلئن بلغت في تهاونك الكثير، فاليوم أنت تجني حصادك. للأسف ما ذكرته للتو لا نتعظ به. ولا نفكر فيه بهذا الاستباق. ولسان حالنا أنها مبالغة لا داعي لها. أو كما يُقال عن طفل بلا تقويم «معدنه يردّه». فنهمل كما نمهل واعتمادنا على تجميع مقولات وأمثال شعبية. فلا نتتبع تاريخنا مع الطفل، أو نتيقظ للمؤشرات التي جاءتنا عنه وأنبأتنا بالبالغ الذي سيكونه. فأيهما أهم حينها رقم حسابك المصرفي أم الإنساني؟ العلامة التجارية التي اقتنيتها أم الإنسانية التي حفرّتها في حياة طفل؟ suraya@alhayat.com
مشاركة :