العجوز الكولومبي الذي جلس على مكتبه يكتب مخطوطة ستصبح العلامة الفارقة في الأدب الإسباني وأكثر الأعمال الأدبية تأثيرًا وحضورًا وبقاء في تاريخ هذه اللغة، قرأها الآلاف عبر الأجيال وبرغم طول صفحاتها وتعدد شخصياتها وتنوع حادثاتها إلا أنها بقيت تحتل مكانة فضلى لديهم، ووزعت منها ملايين النسخ المختصرة حول العالم، وعدت واحدة من أهم الكلاسيكيات الناطقة باللغة الإسبانية. هذا العجوز الذي استغرقته روايته تلك جزءًا كبيرًا أنفقه من عمره، وظل يعيش مع شخوصها المختلقة لوقت طويل جدًا حتى صار يبكي رحيلها وتهز أوتار قلبه أوجاعهم ويحفظ تفاصيل الروح من كل فرد منهم لكأنه هو الذي عاش وأحس ورأى ورحل، إنه الكولومبي الأشهر غابرييل غارثيا ماركيز، صاحب «مئة عام من العزلة «، و»الحب في زمن الكوليرا»، «موت معلن» وغيرهم من عشرات المجموعات القصصية والروايات، وكلها دون استثناء احتلت مكانة بارزة في الأدب العالمي. مئة عام من العزلة هي المفضلة لعشاق ماركيز دومًا، وكمعظم ما يخطه كانت الرواية خليط بين الواقع والخيال، يفصل بينهما خيط هش رفيع لا يكاد يُرى، في قرية خيالية عاش عليها كل أفراد عائلة بوينديا، منذ أسسها وغرس أولى جذورها الجد الأكبر حتى يحتضن المنزل الذي حوى حيوات أجيال عدة متعاقبة جثمان آخر حفيدة للعائلة العريقة، حينها تهب رياح أثيرية غامضة وتكنس كل الذكريات والفوضى والتاريخ الذي كان، وتمحي الأثر الأخير للعائلة، لكن تسلسل الأحداث لم يكن بمنطقية روايات نجيب محفوظ، ولا كان بواقعيتها أيضًا، ولم تكن حياة جديدة تكاد تبدأ حتى تتسلل إليها أخرى وتختلط معها ثم تظهر أطياف من الماضي وأشباح من المستقبل مفككة ترابط الشخصيات في ذهنك. حينما شرعت في قراءة مئة عام من العزلة كنت أصغر بما يربو عن العشر سنوات، وكانت لهفتي للكتب وتشوقي للروايات وانغماسي في عالمها الخيالي المحسوس للغاية في ذروته، وهكذا لم أكن أرد أي كتاب يقع بين يدي، يكفي أن أجد صفحات بغلافها حتى أقع في حبه قبل حتى أن يطالعني منه حرفًا، أقول هذا لأنه غالبًا لو كان هذا الكتاب قد صادفني اليوم ما كنت لأستطيع إكماله، ففي حين يحيلني نجيب محفوظ إلى زمن حقيقي ويدفع بالماضي الذي كان بحق وتنفس بحق وعاش بحق بين يدي، ويجعلني أحيا تجربة لا مثيل لها، لأن ما يكتب عنه كان ببساطة كائنًا، حادثًا واقعًا لا محالة، حياة وجدت في الماضي وبُعثت على لسان محفوظ، فإن غابرييل ماركيز يشتتني وتدفع شخصياته بالخواء إلى روحي وأخرج من رواياته وأنا في شبه دوامة تائهة محتارة. مئة عام من العزلة فيها من الواقعية الكثير، ودون شك أنه حتى هذه الحياة الإسبانية الغريبة عنا قد وجدت طريقها إلى قلوبنا، لكن العجائب التي تحصل لأفراد العائلة والتي تتراوح بين الخوارق والإسفاف تقذفك رغمًا عنك خارج هذه القرية الجميلة وتعيد بناء الحواجز الزمنية حولك، وما وجدت فوق هذا لسير القصة هدفًا، فكل الحيوات تذوب أمامي وكل شخصية لا أجد لها من الخير والصدق ومحاسن الأخلاق موقعًا، وتلتوي شجرة العائلة في فروع شائهة قبيحة، ويختلط نسلها، وتكثر خطيئات أفرادها، حتى ظننت أن الرياح التي أتت على بقاياهم في النهاية ما كانت إلا تطهيرًا لآثامهم والعاصفة الممطرة التي غسلت بقايا القرية ما هطلت إلا تخليصًا للأرض من جذورهم الملتوية. وكعادة كبار الكتاب غالبًا أكثر رواياتهم شهرة هي أبعدها عن ذائقتي وأقلهم جمالًا وروعة بالنسبة إلي، فروايات وقصص ماركيز الأخرى كلها كانت أجمل وأقرب للواقع وتحمل من ملامح الحب والوفاء والجزاء ما يجعل لها معنى وغاية، لكن يبقى أسلوب الكاتب الكولومبي هو السيد، والمشاهد التي يصف والعواطف التي يهرقها دونك كلها كفيلة أن تأسرك وتخلب لبك ما إن تصادف اسمه مطبوعًا على أي كتاب له. مئة عام من العزلة تُرجمت إلى سبعة وثلاثين لغة، وبيع منها أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة حول العالم! وللغرابة فبرغم تأثيرها الواسع على العالم الغربي والمشرقي إلا أنها لم تُتَبنّ إلى التلفاز أو السينما إلا نادرًا للغاية، وشرح النقاد أن الحجم الهائل لشخصياتها وأحداثها يجعل من المستحيل تقريبًا على فيلم واحد بمفرده أن يحتويها، كما أن خلو الرواية من الأحداث الشائقة وعنصر الإثارة قد يترك ظلاله على أي محاولة لتبني العمل سينمائيًا، بينما حُولت معظم أعمال ماركيز الأخرى لأفلام ومنتجات تلفازية بسهولة، مما يشي أن عنصر القصة والمغزى منها أوضح وأعمق دائمًا عند ماركيز إلا في أعوامه المئة من العزلة.
مشاركة :